استأذن فاتح مصر عمرو بن العاص الخليفة عمر بن الخطاب أن يبعث بسراياه وطلائعه نحو بلاد بُرْقَة وما وراءها، فلم يسمح له بذلك خوفاً من تشتت المسلمين في بيداء البلاد الأفريقية قبل الدراسة المستفيضة لطبيعة الأرض ولطرق المواصلات، وإقامة مراكز التجمع. عندئذ اضطر عمرو بن العاص لسحب من أرسلهم من جنده إلى جهة الغرب بعد أن تقاضى من أهل البلاد البُرقاوية جزية مقدارها 13.000 دينار.
تولى الخليفة عثمان بن عفان، ذو النورين، أمر المسلمين وقد استقرت البلاد وانتظم الحكم وقويت شوكة المسلمين إلى حد بعيد، يومئذٍ أصدر الخليفة أمره بالتوجه بفتح أفريقيا التي كانت تَئِنّ أنيناً مزعجاً تحت صولة الاستعمار الرومي البيزنطي الذي خلف الحكم الوندالي، فما كان للروم يومئذ من مهمة في هذا الشمال الإفريقي، حسب شهادة كبار رجال التاريخ من الأوروبيين، إلا النهب والسلب والارتشاء الفاضح، وبيع كل شيء حتى الشرف مقابل الذهب ومتاع الحياة الدنيا.
ففي سنة 28 من الهجرة المحمدية جهز ابن عفان رضي الله عنه وأرضاه جيش عبد الله بن أبي سرح وجهزه فأحسن تجهيزه وتبرع له في سبيل الله من ماله الخاص بألف جمل لحمل الأثقال، وسار الجيش المحمدي الإسلامي إلى أرضنا هذه وهو يشمل 20 ألفاً من الكرام المجاهدين اجتازوا كامل الأرض الليبية فحرروها، ثم أشرفوا على البلاد التونسية الجنوبية، وتقدموا إلى أواسطها، فهال الروم ومن معهم من مُدَجني البربر ذلك الهجوم العربي القوي، وجمعوا له ما استطاعوا جمعه من رجال، فأصبحوا على رأس قوة تشمل مائة وعشرين ألف رجل يعرفون البلاد ومسالكها وطرقها، وجاء للمسلمين مدد قليل من الأبطال وعلى رأسهم البطل الكبير عبد الله بن الزبير ابن العوام، ابن عمة الرسول الأعظم أسماء ذات النطاقين، وتحارب الجمعان واقتتلا بشدة وبعنف وانتصر المسلمون نصراً مبيناً.
لكن المسلمين رأوا هنالك من كثرة الروم ومن وعورة المسالك ومن انقطاع طرق المواصلات ما جعلهم يتفاوضون مع الروم على الانسحاب. وقبل الروم والمدجنون من البربر دفع دية ثقيلة جداً للعرب بلغت قيمتها حسب ما رواه الثقات من المؤرخين 2.500.000 ديناراً ذهبياً، أي نحو 50 ملياراً من الفرنكات القديمة حسب سعر الذهب في يومنا هذا.
هكذا تراجع العرب إلى الوراء بعد معركة سبيطلة، وثارت الأقوال يومئذٍ حول هذا الانسحاب بعد النصر. ولا تزال أقوال المؤرخين مختلفة حوله إلى يومنا هذا إلا أن رجال بيزنطة، بعد أن وطدوا سلطاتهم من جديد على البلاد بعد انسحاب العرب، طالبوا المستوطنين من الروم والمدجنين من البرير بدفع مبالغ طائلة جداً إلى بيزنطة، إذ أنها رأت أن لديهم أموالا عظيمة مدخرة مستدلة على ذلك بما دفعوه للعرب من ذهب غزير مقابل الانسحاب. وثارت بتلك المناسبة ثورة بالبلاد وتقاتل الروميون مع المستوطنين ومن معهم من البربر، فتغلبوا عليهم ونهبوا وسلبوا واستباحوا منهم كل شيء.
يقول التاريخ : إن والي بيزنطة الذي غلبه بنو قومه وابتزوا ما لديه من مال وخيرات، غادر وطنه كئيباً وأم مدينة دمشق، عاصمة المسلمين حيث تمكن معاوية بن أبي سفيان من نصب مملكة بني أمية على أنقاض خلافة المسلمين، بعد الفتنة الكبرى الهوجاء التي كادت أن تقضي على المسلمين، واستثاره الوالي الرومي ضد بيزنطة ووعده إن هو أرسل جنده العربي إلى البلاد أن يكون له عونا ودليلاً، ولم يستجب له معاوية في الحال، إنما وعده بالنظر في ترتيب أمر الغزوة الجديدة.