بعد ذلك بسبع عشرة سنة، أي عام 45 هـ، 666 م، أرسل معاوية جيشا لإفريقيا تحت إمرة والي مصر معاوية ابن حديج، كان قوامه عشرة آلاف رجل. فسار مجتازاً فيافي ليبيا، وحط على جنوب البلاد التونسية واحتل ما كان قد احتله من قبل عبد الله ابن أبي سرح، وبقي في البلاد حيناً ثم انسحب منها عائداً أدراجه دون أن يترك وراءه أثراً.
فكل هذه الحملات يمكننا اعتبارها حملات استطلاعية لدراسة البلاد وأهلها. ووضعيتهم الاجتماعية، وخصوصاً طرق مواصلاتها ومواضع الاستقرار بها.
ثم جاءت ساعة الفتح الحقيقي ساعة الاستقرار ونشر الإسلام ساعة إقامة الحكم الإسلامي بكامل هذا الشمال الأفريقي إلى سواحل المحيط الأطلسي.
كانت قد مضت على وفاة أكرم المرسلين خمسون سنة، وكان معاوية بن أبي سفيان قد وطد حكمه ببلاد الشام على رأس الدولة الأموية منذ عشرة أعوام وأنشأ ملكاً عضوضاً وجَيَّشَ جنداً قوياً مقتدرا، وعندئذ استقر عزمه على أن يباشر فتح بلاد المغرب بعد أن استقر له الأمر ببلاد مصر وبلاد المشرق.
انتدب لذلك الآمر العظيم جيشاً من عشرة آلاف محارب جسور، واختار لقيادتهم بطلاً من أعظم أبطال المسلمين، ومجاهدا عربياً أصيلا من أكبر مجاهدي العرب الأولين، هو صاحب هذا القبر الشهيد الأبر، عقبة ابن نافع الفهري رضي الله عنه وأرضاه وكان سنه يومئذٍ قد ناهز الخمسين.
سار عقبة بن نافع الشهم الأبي على رأس جيشه من فحول العرب يطوي البيداء طياً، لا يعبأ بمخمصة ولا يقيم حساباً لظماء إلى أن أشرف على جنوب البلاد التونسية وما كان قصده استطلاعاً بل قصده هذه المرة استقراراً، فحارب وانتصر، ثم حارب وانتصر ثم تقدم نحو شمال البلاد بعد أن حطم كل مقاومة بيزنطية فيها، فانحصر سلطان بيزنطة بمدينة قرطاجنة وما حواليها، وبِقِطَعٍ مختلفة من أرض المغربين الأوسط والأدنى.
هنالك ارتأى عقبة العظيم أن يبني لنفسه ولجنده وللمسلمين من حوله مستقراً ومستودعاً يكون بالنسبة للفتح الجديد مثل القلب بالنسبة للجسد، يكون في نفس الوقت معسكراً للجيش ومقراً للحكم والإدارة ومركزاً لبث أنوار الهدى واليقين ونشر دين سيد المرسلين، وبعد أن فحص بنظره الثاقب أرض البلاد، اختار موضعاً وسطاً ليس كثير البعد عن البحر تحيط به سهول واسعة يستطيع أن يرى من حولها كل حركة ويستطيع أن يتحرك منها بكل سهولة نحو أي ناحية يقصدها في فتحه وجهاده. وهكذا أسس تلك المدينة الخالدة التى سارت بذكرها الركبان، مدينة القيروان الشهيرة التي سجلت عاطر ذكرها على صفحات تاريخ المدينة الإسلامية الفاخرة الرفيعة.
ما هي إلا فترة قليلة من الزمن وإذا بمدينة القيروان تبني حول مسجدها الكبير وتقوم إلى جانبه دار الإمارة ومساكن الجنود وديار العائلات الإسلامية التي أخذت تنمو وتنتشر بمن آمن وأسلم من البربر، وأحاط مدينة القيروان (التي هي أصل كلمة (Caravane) الأوروبية، بسور كبير شاهق يبلغ طوله 15 كيلومترا.