هنالك سادت السكينة وانتظم طريق الاتصال بين المعسكر الإسلامي العربي وبين القاهرة، حيث يقوم مركز الفسطاط العظيم، وأخذ الدعاة والمرشدون يخرجون من القيروان إلى أقاليم البلاد يعلمون الناس القرآن العظيم ويبينون أحكام الله ويبشرون بأخوة الإسلام. وأخذ البرير يدخلون في دين الله أفواجا وقد تبين لهم الهدى ورأوا رأي العين ذلك الفارق العظيم بين العرب المسلمين الداعين للعدل والأخوة والتساوي والاعتصام بحبل الله المتين، وبين أولئك المستعمرين الذين تداولوا منذ عهد روما الطاغية أمر البلاد فطغوا وتجبروا وحكموا وظلموا واسترقوا العباد واستولوا على الأرض واستحوذوا على المال وخالوا أنفسهم كل شيء وخالوا أهل البلاد لا شيء.
لو بقي البطل عقبة على رأس البلاد لتغير حالها جذرياً ولأصبحت يومئذٍ مركزاً إسلامياً يضاهي أو يفوق مركز القاهرة.
لكن أيام عقبة الأولى لم تطل، إنه لم يبق بالبلاد الأفريقية يومئذ محارباً فاتحاً معلماً إلا خمسة أعوام فحسب.
ذلك أن معاوية بن أبي سفيان كان يتلاعب بأمر الولاة في الآفاق، حسبما تمليه عليه مصلحة القبائل المختلفة أو حسب مشيئته وهواه. فالولاية عنده تعتبر منحة لمكافأة إنسان، أو جلباً لرضا طائفة معينة.
وكان مسلمة بن مخلد من أقرب المقربين إليه وممن قاموا بدعوته وأمتعوا في محاربة علي، كرم الله وجهه، وتقويض أركان خلافة الشورى الإسلامية وكان إلى جانب ذلك عدواً شخصياً لعقبة بن نافع الفهري، فطالب معاوية يمنحه إمارة إفريقيا، ولم يرى معاوية بدا من الاستجابة لهذا الطلب، فأصدر إليه الامر يتلك الإمارة كما أصدر أمره بعزل المجاهد العظيم عقبة بن نافع عن ذلك.
ما سار مسلمة بن مخلد إلى أفريقيا ليتولى فيها أمر الفتح وأمر الجهاد، بل أرسل مولاه دينار أبي المهاجر، يقوم فيها حاكماً ومجاهداً باسم سيده، على أن يكون أول عمل يقوم به في تلك البلاد هو القبض على عقبة بن نافع وإذلاله وتقييده بالأغلال وإرجاعه مهاناً إلى المشرق.
تصوروا سادتي وأبنائي هول هذه الكارثة الإنسانية الفادحة : القائد العظيم والفاتح النابه والمجاهد الذي باع نفسه لله يكون جزاؤه العزل والإهانة والقيد، فأي نفس لا تتحطم وأي قلب لا ينكسر أمام هذا الإجحاف المنكر؟
لكن نفساً عظيمة وروحاً قوية وإيماناً صادقاً كنفس وكروح وكإيمان عقبة العظيم ما كانت ترجو جزاءها الأوفى إلا من الله، وما كانت لتيأس أو تنهار، بل إنها صبرت صبر العظيم على العظيم وعلمت أن ساعتها آتية لا ريب فيها وأن الله يجعل مع العسر يسراً، فلننتظر معه قليلا.