كان كسيلة ملكاً أمازيغياً عظيماً وكان رابضاً كالأسد فوق عرين الأوراس الأشم، وكان الناس يقولون عنه أنه لا يغلب، وهو متمركز في جباله، محاط بالأشداء، ذوي المراس الشديد من بني قومه، لكن الإيمان القوي يدفع بالمجاهدين إلى ميادين المخاطر والأهوال، فأبو المهاجر دينار، أمير أفريقيا العملي، ما جاء عابثاً وما جاء من أجل نعيم الحياة الدنيا، بل جاء مجاهداً، جاء ناشرا لدين الإسلام، جاء لكي يجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الكفر هي السفلى، فكان أول أمر قام به في ذلك الميدان الشريف هو تقحمه جبال أوراس المنيعة وتغلغله خلال أوديتها وقممها ومهاجمته لكسيلة مهاجمة عنيفة على رأس القلة من جيشه المجاهد النبيل، فانتصر الإسلام واندحر الكفر، ولينصرن الله من ينصره، واستسلم كسيلة أمام دعوة الحق ثم أسلم ثم أصبح من أنصار الأمير أبي المهاجر ومن خاصته المعدودين وتبعته في ذلك جماعة كبيرة من قومه. ولقد فاجأه أبو المهاجر من ناحية الجنوب متخذاً مدينة بسكرة قاعدة لعمله الكبير.
اتخذ أبو المهاجر بلدة ميلة دارا للإمارة بعد ذلك، ووجه قصارى جهده للقيام بجليل الأعمال في وسط هذا المغرب الأوسط، جزائرنا الحبيبة اليوم، وسار على رأس كماته الأبطال إلى مختلف تجمعات البرير محاربا بشدة من حاربه، ومتسامحا أقصى التسامح مع من سالمه، وهكذا اجتاز جبال الونشريس وما حواليها حتى وصل مدينة «بوماريا» أو تلمسان اليوم.
إن التاريخ ليشهد أن أبا المهاجر هذا كان مجاهداً صادقاً وكان إدارياً حكيماً، وأنه سلك مع البربر سياسة الرحمة الإنسانية وسياسة الأخوة الإسلامية، فنال من وراء ذلك خيراً عظيماً وفتحاً عميماً.
دامت هذه الولاية الصالحة ما يزيد عن العشرة أعوام مات في آخرها معاوية بن أبي سفيان وتولى الخلافة من بعده ابنه اليزيد. وقد كان ولا ريب متألماً مما لحق بالبطل عقبة من سوء وإهانة، فأمر سنة 62 للهجرة (682 م) بإرجاع إمارة أفريقيا إليه، وجهزه فأحسن تجهيزه، وجاء إلى مرتع جهاده في أرض ممهدة قد اعتنق الإسلام بها كثرة من رجالها، فأم أول أمره مدينة القيروان التي تم تخريبها وأقام من جديد جدرانها ووسعها وحصنها، والعدالة أيها السادة عرجاء تأتي بطيئاً لكنها تصل على كل حال، وكان من أول ما عمله عقبة بعد تسلمه مقاليد الولاية هو القبض على أبي المهاجر دينار، ورد إليه الإهانة بمثلها بأن وضع القيد في يديه وكان يأخذه معه أينما سار وهو على تلك الحالة. وأظهر ابو المهاجر صبراً وجلداً عظيمين جديرين بالتقدير والإعجاب.
وهكذا نرى سادتي أن لكل عظيم من العظماء زلة، فيا ليت عقبة الكبير تورع عن معاملة أبي المهاجر، بعد طول بلائه وجهاده وإدارته، بمثل ما عامله به مأموراً : لقد غلط من قال : “إن الإنسان مَلَكْ” كما غلط من قال “إن الإنسان شيطان”، كلا، إن الإنسان إنسان وكفى.