بطل العروبة والإسلام عقبة بن نافع

جاء عقبة وهو يُسِر في نفسه أمراً ألا وهو إنجاز العمل الذي ابتدأ به منذ الساعة الأولى بفتح كامل بلادنا المغرب، الذي أصبح عربياً، بفضل ذلك الجهاد الأصيل المتواصل، فأمَّن أولاً قاعدة أعماله واطمأن على مؤخرته وحافظ على خط مواصلاتة ثم انطلق نحو مجمعات البربر فسار أولا إلا باغاية حيث حطم المقاومة الرومية البربرية، ومنها أم بلدة لمبييز حيث تصادم الأعداء بعنف وشدة إلى أن استسلموا وأسلم معظمهم، وهنالك لوى عنانه نحو مدينة مسيلة وكان لها عمران عظيم يكتنفها، ناهيك أنه قد كان حولها 360 قرية مأهولة. وهنالك وقعت ملحمة من أغرب الملاحم حيث تجمع ضده خلق كبير وسلاح وافر، فانحط عليهم برحاله وكأنه الإعصار، وحطم مقاومتهم فخضعوا وأسلم منهم الكثير، ثم اتخذ سبيله نحو الغرب في عزم صادق وهمة لا تعرف للراحة سبيلاً وجنده المجاهد الذي لا يرجو إلا لقاء ربه والفوز بالشهادة في سبيل الله، لا يسير تحت قيادته فحسب بل يستحثه على السير المتواصل والجهاد المستمر، فأمّ ناحية تيهرت وهاجم جموعها بما عرف عنه من شدة وحزم، فأخضعها واستسلمت له، واجتاز الونشريس الصعبة المراس محاربا من حاربه ومسالماً من سالمه، وهنالك انطلق سهما إلاهيا نحو بومارية -تلمسان الحديثة- فوطد بها حكم الإسلام وغرس فيها روح الإيمان، فما ترك في أرض المغرب الأوسط من ينازعه الأمر، ولو بصورة ظاهرية. ثم جمع جموعه وانطلق بهم مثل الصاروخ نحو بلاد المغرب الأقصى مستحثاً السير، مصادماً في طريقه كل من حاول الوقوف في سبيله، إلى أن حط على مدينة طنجة البهية فحاصرها وضيق عليها، وكان الأمير جويليان الغماري النصراني الحكيم يتولى أمرها، فاستسلم لعقبة إثر ذلك الحصار الضيق وجامله.

يومئذٍ أرادت عزيمة عقبة الفولاذية، وقد رأت رأي العين من وراء العدو بلاد الأندلس، أراد أن يقتحمها وأن يفتتحها، وأن يجعل منها داراً للإسلام، فقال له الأمير جويليان الغماري : عجباً لك ! أترمي بنفسك في مغامرة مع الإفرنج أصحاب البلاد وتجعل البحر بينك وبين جماعة المسلمين، وتترك وراءك جموع البربر الغفيرة وهم محصَّنون ضمن صياصيهم وجبالهم المنيعة، وإنك لا تدري ماذا يفعلون في مؤخرتك إذا ما أنت هاجمت بجموعك بلاد الأندلس ! قال عقبة : وأين هم ؟ قال جويليان : مركزهم الأكبر هو بلاد السوس. قال : وما هو دينهم، قال له جويليان : هم قوم جهلة كفار لا يعرفون ديناً إطلاقاً. قال عقبة : أنا لهم ! ثم سار إليهم بحمية وشجاعة غريبين إلا عن المسلم الصادق الإيمان، واخترق بلاداً لا يعرفها إلى أن حط على مدينة وليلي، على مقربة من جبل زرهون بين النهرين الكبيرين، نهر سبو ونهر ورغة، وهنالك وقعت معركة من أكبر معارك الفتح الإسلامي، وصادم عقبة ورجاله تلك الجموع القوية الأبية الشرسة، فدافعت وأحسنت الدفاع، إنما هي انهزمت آخر الأمر، ومن ذا الذي يستطيع ثباتاً أمام هجوم عقبة العنيف، المتخرج من مدرسة سيف الله خالد بن الوليد ! ولم يضيع الوقت سدى، فتتبعهم إلى أن وصلوا بلاد درعة وتحصنوا بها مع بني قومهم في جبال السوس، وهنالك ظهرت معجزة الأيمان، وهنالك بدت كرامة الجهاد الحق في سبيل الله: اقتحم عقبة ورجاله الأشداء تلك الصياصي الطبيعية الصعبة ونازلوا القوم نزالا عنيفا إلى أن تغلبوا عليهم وكان أغلبهم من قبيلة مصمودة، وأعان المسلمين على ذلك النصر المبين رجال أشداء من قبائل زناتة التي كانت قد أسلمت وحسن إسلامها بعد إسلام قبائل مغراوة. وهكذا غُلِبَت قبائل مصمودة على أمرها ودانت للإسلام دين الله الخالد.

من هنالك سار عقبة وجموعه نحو الغرب حتى وصلوا المحيط الأطلسي من جهة أسفي. فوقف أمامه عقبة متأملاً ثم قال لقومه وهم مشدوهون : ارفعوا أيديكم للدعاء. ففعلوا ثم أدخل قوائم فرسه في البحر ورفع يديه وقال مخاطباً بهذا الدعاء الذي حفظ لنا التاريخ نصه : « اللّهم إني لم أخرج بطراً ولا أشراً، وإنك لتعلم إنما نطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين، وهو أن تعبد ولا يشرك بك شيء والله إنا معاندون لدين الكفرة ‏ ومدافعون عن دين الإسلام، فكن لنا ولا تكن علينا يا ذا الجلال والإكرام ».

وأمّن القوم خاشعين، وقد اقشعرت جلودهم لذكر الله ثم ساروا وساروا إلى أن بلغوا بلدة « تارودانت » وانتهى بهم المطاف هنالك.

Loading

Bookmark the permalink.

اترك تعليقاً