بطل العروبة والإسلام عقبة بن نافع

مسجد سيدي عقبة يمدينة بسكرة حيث مرقد الفانح العظيم

في رحاب هذا المسجد العظيم الذي أسس على التقوى، ومن جوار هذا البطل المغوار المقدام الصارم الذي صعدت روحه الطاهرة إلى أعلى عليين، بين الشهداء والصالحين، ووري جسمه في هذه البقعة الطاهرة من أرض الوطن الكبير لكي يبقى لدينا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، نبراساً منيراً، وذكرى حية خالدة تنادينا أن لا حياة إلا من وراء التضحية والجهاد، ولا كرامة ولا عزة إلا بعد الفداء والاستشهاد.

ذلك هو صوت بطل العروبة والإسلام، “عقبة بن نافع الفهري” الذي تسمعه كل صباح وكل مساء ينادينا إلى الحياة الحقة وإلى ساحات الشرف. فنستجيب له مهطعين، ونتقدم في عزم صادق، وفي نخوة إسلامية أبية نقيم للإسلام الحنيف مناراً ونزيد الوطن العزيز شرفاً وفخاراً.

فتحية مني صادقة مخلصة للشهداء الأبرار من هذه الديار الذين قدموا المهج والأرواح منذ ساعات ‏الجهاد الأولى إلى معركة التحرير العظيمة الهائلة، لكي يعيش بعدهم الإسلام عزيزاً ولكي تحيا العربية في بلادهم لساناً مبيناً أبدياً، ولكي يحيا الوطن من بعدهم حراً مستقلاً سعيداً، وإلى الأبد إن شاء الله.

أيها السادة والأبناء،

إنني سأحدثكم الساعة عن عقبة العظيم، وعن جهاده النادر المثال وعن عزيمته الصادقة وروحه المثالية النادرة، إنه لفذ بين الأبطال، وإنه لقدوة لعظماء الرجال في صدر الإسلام الأول أيام كان المؤمنون مؤمنين، وأيام كان المسلمون مسلمين، وانطلق الأبطال يجوبون الآفاق التي حواليهم نشراً لدين الإسلام الخالد وإقامة لدعائم الحضارة الإنسانية الحقة القائمة على أساس : “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي”، فبعد أن توحدت « جزيرة العرب » أم البطولة ووالدة الأبطال، وتكونت الدولة الإسلامية الوارفة الظلال، التي تركها محمد عليه صلوات الله وسلامه لخلفائه من بعده، قاوم أبو بكر الصديق حركة الردَّة التي قام بها رجال العصبية القبلية إلى أن محقها وقضى عليها، وأنقذ الله بلاد العراق العربي، فآمن وأسلم، ثم قوَّض عمر دولة الأكاسرة الفارسية ودمر مجوسيتها ونشر فيها مبادئ الإسلام ودعوة القرآن، فأصبحت منذ تلك الساعة وإلى آخر الحياة الدنيا، منار إسلام وهدى، ومبعث كفاح علمي وحضاري لا يزال يذكر ويشكر، ثم لوى عنان الجهاد إلى الأرض الإفريقية موسعاً رقعة الدولة الإسلامية المحمدية غرب جزيرة العرب، كما وسعها في شمالها الشرقي، وذهب إلى فلسطين الآبية الشريفة فحررها من الأرجاس الأدناس -وما كان بها يومئذٍ من اليهود شيء- إنما كانت بها جموع مستبدة من الروم البيزنطيين، وهي الأعراب وبقايا بني كنعان، وكان الحكم فيها مسيحياً صرفاً، فتسلمها عمر بن الخطاب العظيم بالله، ونشر فيها لواء الإسلام وطهر الصخرة المباركة مما كان عليها من مزابل وقاذورات، ومن القدس الشريف ومن هضاب ورحاب فلسطين العزيزة الغالية، التي ذهبت ضحية الغدر والخيانة والسمسرة الكاذبة الفاجرة، والتي سيعيدها المسلمون بحول الله وقريباً سيرتها الأولى، ذهبت جحافل المسلمين رجالاً وفرساناً تُطَهِّر سوريا ولبنان وتُبْعِد عن بلاد العروبة الأصيلة شرور وآثام الاستعمار البيزنطي الأشر، الذي ما كان له من هم إلا ابتزاز المال وإذلال الرجال.

كذلك أنقذ الله بلاد مصر العزيزة من أغلال الاستعمار الرومي، وأنقذ أقباطها من مذلة الاستعباد ونشر فيها لواء الإسلام، ونفذ فيها أحكام القرآن، ومن رحاب فسطاطها العظيم، سارت كتائب المسلمين الميامين تبيع الأرواح رخيصة في سبيل الله وتقيم دعائم دولة المسلمين، في مغرب الأرض الإفريقية كما أقامتها في مغرب الأرض الأسيوية.

استأذن فاتح مصر عمرو بن العاص الخليفة عمر بن الخطاب أن يبعث بسراياه وطلائعه نحو بلاد بُرْقَة وما وراءها، فلم يسمح له بذلك خوفاً من تشتت المسلمين في بيداء البلاد الأفريقية قبل الدراسة المستفيضة لطبيعة الأرض ولطرق المواصلات، وإقامة مراكز التجمع. عندئذ اضطر عمرو بن العاص لسحب من أرسلهم من جنده إلى جهة الغرب بعد أن تقاضى من أهل البلاد البُرقاوية جزية مقدارها 13.000 دينار.

تولى الخليفة عثمان بن عفان، ذو النورين، أمر المسلمين وقد استقرت البلاد وانتظم الحكم وقويت شوكة المسلمين إلى حد بعيد، يومئذٍ أصدر الخليفة أمره بالتوجه بفتح أفريقيا التي كانت تَئِنّ أنيناً مزعجاً تحت صولة الاستعمار الرومي البيزنطي الذي خلف الحكم الوندالي، فما كان للروم يومئذ من مهمة في هذا الشمال الإفريقي، حسب شهادة كبار رجال التاريخ من الأوروبيين، إلا النهب والسلب والارتشاء الفاضح، وبيع كل شيء حتى الشرف مقابل الذهب ومتاع الحياة الدنيا.

ففي سنة 28 من الهجرة المحمدية جهز ابن عفان رضي الله عنه وأرضاه جيش عبد الله بن أبي سرح وجهزه فأحسن تجهيزه وتبرع له في سبيل الله من ماله الخاص بألف جمل لحمل الأثقال، وسار الجيش المحمدي الإسلامي إلى أرضنا هذه وهو يشمل 20 ألفاً من الكرام المجاهدين اجتازوا كامل الأرض الليبية فحرروها، ثم أشرفوا على البلاد التونسية الجنوبية، وتقدموا إلى أواسطها، فهال الروم ومن معهم من مُدَجني البربر ذلك الهجوم العربي القوي، وجمعوا له ما استطاعوا جمعه من رجال، فأصبحوا على رأس قوة تشمل مائة وعشرين ألف رجل يعرفون البلاد ومسالكها وطرقها، وجاء للمسلمين مدد قليل من الأبطال وعلى رأسهم البطل الكبير عبد الله بن الزبير ابن العوام، ابن عمة الرسول الأعظم أسماء ذات النطاقين، وتحارب الجمعان واقتتلا بشدة وبعنف وانتصر المسلمون نصراً مبيناً.

لكن المسلمين رأوا هنالك من كثرة الروم ومن وعورة المسالك ومن انقطاع طرق المواصلات ما جعلهم يتفاوضون مع الروم على الانسحاب. وقبل الروم والمدجنون من البربر دفع دية ثقيلة جداً للعرب بلغت قيمتها حسب ما رواه الثقات من المؤرخين 2.500.000 ديناراً ذهبياً، أي نحو 50 ملياراً من الفرنكات القديمة حسب سعر الذهب في يومنا هذا.

هكذا تراجع العرب إلى الوراء بعد معركة سبيطلة، وثارت الأقوال يومئذٍ حول هذا الانسحاب بعد النصر. ولا تزال أقوال المؤرخين مختلفة حوله إلى يومنا هذا إلا أن رجال بيزنطة، بعد أن وطدوا سلطاتهم من جديد على البلاد بعد انسحاب العرب، طالبوا المستوطنين من الروم والمدجنين من البرير بدفع مبالغ طائلة جداً إلى بيزنطة، إذ أنها رأت أن لديهم أموالا عظيمة مدخرة مستدلة على ذلك بما دفعوه للعرب من ذهب غزير مقابل الانسحاب. وثارت بتلك المناسبة ثورة بالبلاد وتقاتل الروميون مع المستوطنين ومن معهم من البربر، فتغلبوا عليهم ونهبوا وسلبوا واستباحوا منهم كل شيء.

يقول التاريخ : إن والي بيزنطة الذي غلبه بنو قومه وابتزوا ما لديه من مال وخيرات، غادر وطنه كئيباً وأم مدينة دمشق، عاصمة المسلمين حيث تمكن معاوية بن أبي سفيان من نصب مملكة بني أمية على أنقاض خلافة المسلمين، بعد الفتنة الكبرى الهوجاء التي كادت أن تقضي على المسلمين، واستثاره الوالي الرومي ضد بيزنطة ووعده إن هو أرسل جنده العربي إلى البلاد أن يكون له عونا ودليلاً، ولم يستجب له معاوية في الحال، إنما وعده بالنظر في ترتيب أمر الغزوة الجديدة.

بعد ذلك بسبع عشرة سنة، أي عام 45 هـ، 666 م، أرسل معاوية جيشا لإفريقيا تحت إمرة والي مصر معاوية ابن حديج، كان قوامه عشرة آلاف رجل. فسار مجتازاً فيافي ليبيا، وحط على جنوب البلاد التونسية واحتل ما كان قد احتله من قبل عبد الله ابن أبي سرح، وبقي في البلاد حيناً ثم انسحب منها عائداً أدراجه دون أن يترك وراءه أثراً.

فكل هذه الحملات يمكننا اعتبارها حملات استطلاعية لدراسة البلاد وأهلها. ووضعيتهم الاجتماعية، وخصوصاً طرق مواصلاتها ومواضع الاستقرار بها.

ثم جاءت ساعة الفتح الحقيقي ساعة الاستقرار ونشر الإسلام ساعة إقامة الحكم الإسلامي بكامل هذا الشمال الأفريقي إلى سواحل المحيط الأطلسي.

كانت قد مضت على وفاة أكرم المرسلين خمسون سنة، وكان معاوية بن أبي سفيان قد وطد حكمه ببلاد الشام على رأس الدولة الأموية منذ عشرة أعوام وأنشأ ملكاً عضوضاً وجَيَّشَ جنداً قوياً مقتدرا، وعندئذ استقر عزمه على أن يباشر فتح بلاد المغرب بعد أن استقر له الأمر ببلاد مصر وبلاد المشرق.

انتدب لذلك الآمر العظيم جيشاً من عشرة آلاف محارب جسور، واختار لقيادتهم بطلاً من أعظم أبطال المسلمين، ومجاهدا عربياً أصيلا من أكبر مجاهدي العرب الأولين، هو صاحب هذا القبر الشهيد الأبر، عقبة ابن نافع الفهري رضي الله عنه وأرضاه وكان سنه يومئذٍ قد ناهز الخمسين.

سار عقبة بن نافع الشهم الأبي على رأس جيشه من فحول العرب يطوي البيداء طياً، لا يعبأ بمخمصة ولا يقيم حساباً لظماء إلى أن أشرف على جنوب البلاد التونسية وما كان قصده استطلاعاً بل قصده هذه المرة استقراراً، فحارب وانتصر، ثم حارب وانتصر ثم تقدم نحو شمال البلاد بعد أن حطم كل مقاومة بيزنطية فيها،‏ فانحصر سلطان بيزنطة بمدينة قرطاجنة وما حواليها، وبِقِطَعٍ مختلفة من أرض المغربين الأوسط والأدنى.

قاعة صلاة مسجد عقبة بالقيروان

هنالك ارتأى عقبة العظيم أن يبني لنفسه ولجنده وللمسلمين من حوله مستقراً ومستودعاً يكون بالنسبة للفتح الجديد مثل القلب بالنسبة للجسد، يكون في نفس الوقت معسكراً للجيش ومقراً للحكم والإدارة ومركزاً لبث أنوار الهدى واليقين ونشر دين سيد المرسلين، وبعد أن فحص بنظره الثاقب أرض البلاد، اختار موضعاً وسطاً ليس كثير البعد عن البحر تحيط به سهول واسعة يستطيع أن يرى من حولها كل حركة ويستطيع أن يتحرك منها بكل سهولة نحو أي ناحية يقصدها في فتحه وجهاده. وهكذا أسس تلك المدينة الخالدة التى سارت بذكرها الركبان، مدينة القيروان الشهيرة التي سجلت عاطر ذكرها على صفحات تاريخ المدينة الإسلامية الفاخرة الرفيعة.

ما هي إلا فترة قليلة من الزمن وإذا بمدينة القيروان تبني حول مسجدها الكبير وتقوم إلى جانبه دار الإمارة ومساكن الجنود وديار العائلات الإسلامية التي أخذت تنمو وتنتشر بمن آمن وأسلم من البربر، وأحاط مدينة القيروان (التي هي أصل كلمة (Caravane) الأوروبية، بسور كبير شاهق يبلغ طوله 15 كيلومترا.

هنالك سادت السكينة وانتظم طريق الاتصال بين المعسكر الإسلامي العربي وبين القاهرة، حيث يقوم مركز الفسطاط العظيم، وأخذ الدعاة والمرشدون يخرجون من القيروان إلى أقاليم البلاد يعلمون الناس القرآن العظيم ويبينون أحكام الله ويبشرون بأخوة الإسلام. وأخذ البرير يدخلون في دين الله أفواجا وقد تبين لهم الهدى ورأوا رأي العين ذلك الفارق العظيم بين العرب المسلمين الداعين للعدل والأخوة والتساوي والاعتصام بحبل الله المتين، وبين أولئك المستعمرين الذين تداولوا منذ عهد روما الطاغية أمر البلاد فطغوا وتجبروا وحكموا وظلموا واسترقوا العباد واستولوا على الأرض واستحوذوا على المال وخالوا أنفسهم كل شيء وخالوا أهل البلاد لا شيء.

لو بقي البطل عقبة على رأس البلاد لتغير حالها جذرياً ولأصبحت يومئذٍ مركزاً إسلامياً يضاهي أو يفوق مركز القاهرة.

لكن أيام عقبة الأولى لم تطل، إنه لم يبق بالبلاد الأفريقية يومئذ محارباً فاتحاً معلماً إلا خمسة أعوام فحسب.

ذلك أن معاوية بن أبي سفيان كان يتلاعب بأمر الولاة في الآفاق، حسبما تمليه عليه مصلحة القبائل المختلفة أو حسب مشيئته وهواه. فالولاية عنده تعتبر منحة لمكافأة إنسان، أو جلباً لرضا طائفة معينة.

وكان مسلمة بن مخلد من أقرب المقربين إليه وممن قاموا بدعوته وأمتعوا في محاربة علي، كرم الله وجهه، وتقويض أركان خلافة الشورى الإسلامية وكان إلى جانب ذلك عدواً شخصياً لعقبة بن نافع الفهري، فطالب معاوية يمنحه إمارة إفريقيا، ولم يرى معاوية بدا من الاستجابة لهذا الطلب، فأصدر إليه الامر يتلك الإمارة كما أصدر أمره بعزل المجاهد العظيم عقبة بن نافع عن ذلك.

ما سار مسلمة بن مخلد إلى أفريقيا ليتولى فيها أمر الفتح وأمر الجهاد، بل أرسل مولاه دينار أبي المهاجر، يقوم فيها حاكماً ومجاهداً باسم سيده، على أن يكون أول عمل يقوم به في تلك البلاد هو القبض على عقبة بن نافع وإذلاله وتقييده بالأغلال وإرجاعه مهاناً إلى المشرق.

تصوروا سادتي وأبنائي هول هذه الكارثة الإنسانية الفادحة : القائد العظيم والفاتح النابه والمجاهد الذي باع نفسه لله يكون جزاؤه العزل والإهانة والقيد، فأي نفس لا تتحطم وأي قلب لا ينكسر أمام هذا الإجحاف المنكر؟

لكن نفساً عظيمة وروحاً قوية وإيماناً صادقاً كنفس وكروح وكإيمان عقبة العظيم ما كانت ترجو جزاءها الأوفى إلا من الله، وما كانت لتيأس أو تنهار، بل إنها صبرت صبر العظيم على العظيم وعلمت أن ساعتها آتية لا ريب فيها وأن الله يجعل مع العسر يسراً، فلننتظر معه قليلا.

كان كسيلة ملكاً أمازيغياً عظيماً وكان رابضاً كالأسد فوق عرين الأوراس الأشم، وكان الناس يقولون عنه أنه لا يغلب، وهو متمركز في جباله، محاط بالأشداء، ذوي المراس الشديد من بني قومه، لكن الإيمان القوي يدفع بالمجاهدين إلى ميادين المخاطر والأهوال، فأبو المهاجر دينار، أمير أفريقيا العملي، ما جاء عابثاً وما جاء من أجل نعيم الحياة الدنيا، بل جاء مجاهداً، جاء ناشرا لدين الإسلام، جاء لكي يجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الكفر هي السفلى، فكان أول أمر قام به في ذلك الميدان الشريف هو تقحمه جبال أوراس المنيعة وتغلغله خلال أوديتها وقممها ومهاجمته لكسيلة مهاجمة عنيفة على رأس القلة من جيشه المجاهد النبيل، فانتصر الإسلام واندحر الكفر، ولينصرن الله من ينصره، واستسلم كسيلة أمام دعوة الحق ثم أسلم ثم أصبح من أنصار الأمير أبي المهاجر ومن خاصته المعدودين وتبعته في ذلك جماعة كبيرة من قومه. ولقد فاجأه أبو المهاجر من ناحية الجنوب متخذاً مدينة بسكرة قاعدة لعمله الكبير.

اتخذ أبو المهاجر بلدة ميلة دارا للإمارة بعد ذلك، ووجه قصارى جهده للقيام بجليل الأعمال في وسط هذا المغرب الأوسط، جزائرنا الحبيبة اليوم، وسار على رأس كماته الأبطال إلى مختلف تجمعات البرير محاربا بشدة من حاربه، ومتسامحا أقصى التسامح مع من سالمه، وهكذا اجتاز جبال الونشريس وما حواليها حتى وصل مدينة «بوماريا» أو تلمسان اليوم.

إن التاريخ ليشهد أن أبا المهاجر هذا كان مجاهداً صادقاً وكان إدارياً حكيماً، وأنه سلك مع البربر سياسة الرحمة الإنسانية وسياسة الأخوة الإسلامية، فنال من وراء ذلك خيراً عظيماً وفتحاً عميماً.

دامت هذه الولاية الصالحة ما يزيد عن العشرة أعوام مات في آخرها معاوية بن أبي سفيان وتولى الخلافة من بعده ابنه اليزيد. وقد كان ولا ريب متألماً مما لحق بالبطل عقبة من سوء وإهانة، فأمر سنة 62 للهجرة (682 م) بإرجاع إمارة أفريقيا ‏إليه، وجهزه فأحسن ‏ تجهيزه، وجاء إلى مرتع جهاده في أرض ممهدة قد اعتنق الإسلام بها كثرة من رجالها، فأم أول أمره مدينة القيروان التي تم تخريبها وأقام من جديد جدرانها ووسعها وحصنها،‏ والعدالة أيها السادة عرجاء تأتي بطيئاً لكنها تصل على كل حال، وكان من أول ما عمله عقبة بعد تسلمه مقاليد الولاية هو القبض على أبي المهاجر دينار، ورد إليه الإهانة بمثلها بأن وضع القيد في يديه وكان يأخذه معه أينما سار وهو على تلك الحالة. وأظهر ابو المهاجر صبراً وجلداً عظيمين جديرين بالتقدير والإعجاب.

وهكذا نرى سادتي أن لكل عظيم من العظماء زلة، فيا ليت عقبة الكبير تورع عن معاملة أبي المهاجر، بعد طول بلائه وجهاده وإدارته، بمثل ما عامله به مأموراً : لقد غلط من قال : “إن الإنسان مَلَكْ” كما غلط من قال “إن الإنسان شيطان”، كلا، إن الإنسان إنسان وكفى.

جاء عقبة وهو يُسِر في نفسه أمراً ألا وهو إنجاز العمل الذي ابتدأ به منذ الساعة الأولى بفتح كامل بلادنا المغرب، الذي أصبح عربياً، بفضل ذلك الجهاد الأصيل المتواصل، فأمَّن أولاً قاعدة أعماله واطمأن على مؤخرته وحافظ على خط مواصلاتة ثم انطلق نحو مجمعات البربر فسار أولا إلا باغاية حيث حطم المقاومة الرومية البربرية، ومنها أم بلدة لمبييز حيث تصادم الأعداء بعنف وشدة إلى أن استسلموا وأسلم معظمهم، وهنالك لوى عنانه نحو مدينة مسيلة وكان لها عمران عظيم يكتنفها، ناهيك أنه قد كان حولها 360 قرية مأهولة. وهنالك وقعت ملحمة من أغرب الملاحم حيث تجمع ضده خلق كبير وسلاح وافر، فانحط عليهم برحاله وكأنه الإعصار، وحطم مقاومتهم فخضعوا وأسلم منهم الكثير، ثم اتخذ سبيله نحو الغرب في عزم صادق وهمة لا تعرف للراحة سبيلاً وجنده المجاهد الذي لا يرجو إلا لقاء ربه والفوز بالشهادة في سبيل الله، لا يسير تحت قيادته فحسب بل يستحثه على السير المتواصل والجهاد المستمر، فأمّ ناحية تيهرت وهاجم جموعها بما عرف عنه من شدة وحزم، فأخضعها واستسلمت له، واجتاز الونشريس الصعبة المراس محاربا من حاربه ومسالماً من سالمه، وهنالك انطلق سهما إلاهيا نحو بومارية -تلمسان الحديثة- فوطد بها حكم الإسلام وغرس فيها روح الإيمان، فما ترك في أرض المغرب الأوسط من ينازعه الأمر، ولو بصورة ظاهرية. ثم جمع جموعه وانطلق بهم مثل الصاروخ نحو بلاد المغرب الأقصى مستحثاً السير، مصادماً في طريقه كل من حاول الوقوف في سبيله، إلى أن حط على مدينة طنجة البهية فحاصرها وضيق عليها، وكان الأمير جويليان الغماري النصراني الحكيم يتولى أمرها، فاستسلم لعقبة إثر ذلك الحصار الضيق وجامله.

يومئذٍ أرادت عزيمة عقبة الفولاذية، وقد رأت رأي العين من وراء العدو بلاد الأندلس، أراد أن يقتحمها وأن يفتتحها، وأن يجعل منها داراً للإسلام، فقال له الأمير جويليان الغماري : عجباً لك ! أترمي بنفسك في مغامرة مع الإفرنج أصحاب البلاد وتجعل البحر بينك وبين جماعة المسلمين، وتترك وراءك جموع البربر الغفيرة وهم محصَّنون ضمن صياصيهم وجبالهم المنيعة، وإنك لا تدري ماذا يفعلون في مؤخرتك إذا ما أنت هاجمت بجموعك بلاد الأندلس ! قال عقبة : وأين هم ؟ قال جويليان : مركزهم الأكبر هو بلاد السوس. قال : وما هو دينهم، قال له جويليان : هم قوم جهلة كفار لا يعرفون ديناً إطلاقاً. قال عقبة : أنا لهم ! ثم سار إليهم بحمية وشجاعة غريبين إلا عن المسلم الصادق الإيمان، واخترق بلاداً لا يعرفها إلى أن حط على مدينة وليلي، على مقربة من جبل زرهون بين النهرين الكبيرين، نهر سبو ونهر ورغة، وهنالك وقعت معركة من أكبر معارك الفتح الإسلامي، وصادم عقبة ورجاله تلك الجموع القوية الأبية الشرسة، فدافعت وأحسنت الدفاع، إنما هي انهزمت آخر الأمر، ومن ذا الذي يستطيع ثباتاً أمام هجوم عقبة العنيف، المتخرج من مدرسة سيف الله خالد بن الوليد ! ولم يضيع الوقت سدى، فتتبعهم إلى أن وصلوا بلاد درعة وتحصنوا بها مع بني قومهم في جبال السوس، وهنالك ظهرت معجزة الأيمان، وهنالك بدت كرامة الجهاد الحق في سبيل الله: اقتحم عقبة ورجاله الأشداء تلك الصياصي الطبيعية الصعبة ونازلوا القوم نزالا عنيفا إلى أن تغلبوا عليهم وكان أغلبهم من قبيلة مصمودة، وأعان المسلمين على ذلك النصر المبين رجال أشداء من قبائل زناتة التي كانت قد أسلمت وحسن إسلامها بعد إسلام قبائل مغراوة. وهكذا غُلِبَت قبائل مصمودة على أمرها ودانت للإسلام دين الله الخالد.

من هنالك سار عقبة وجموعه نحو الغرب حتى وصلوا المحيط الأطلسي من جهة أسفي. فوقف أمامه عقبة متأملاً ثم قال لقومه وهم مشدوهون : ارفعوا أيديكم للدعاء. ففعلوا ثم أدخل قوائم فرسه في البحر ورفع يديه وقال مخاطباً بهذا الدعاء الذي حفظ لنا التاريخ نصه : « اللّهم إني لم أخرج بطراً ولا أشراً، وإنك لتعلم إنما نطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين، وهو أن تعبد ولا يشرك بك شيء والله إنا معاندون لدين الكفرة ‏ ومدافعون عن دين الإسلام، فكن لنا ولا تكن علينا يا ذا الجلال والإكرام ».

وأمّن القوم خاشعين، وقد اقشعرت جلودهم لذكر الله ثم ساروا وساروا إلى أن بلغوا بلدة « تارودانت » وانتهى بهم المطاف هنالك.

انتهت هذه المهمة الشاقة العنيفة التي اجتاز فيها عقبة وجاله الأبطال ما يزيد عن التسعة آلاف كيلومتر محاربين مجاهدين، وقد استغرقت من الزمن ما لا يماد يزيد عن سنة ! فقلما عرفنا في التاريخ غزوة عارمة متواصلة اخترقت مثل هذه المسافة الطويلة واستغرقت مثل هذا الوقت القصير.

هذه التفاصيل المذهلة المدهشة لم يذكرها أغلب المؤرخين إلا لماماً يقولون : إن عقبة اجتاز بلاد المغرب وحارب البربر إلى السوس ثم رجع أعقابه ؛ هكذا بمثل هذا الإيجاز المخل.

أخذ عقبة طريقه للرجوع بعد أن فتح البلاد ونشر الإسلام ووطد أركان الأمن والسلام،‏ وسلك في رجوعه نحو القيروان طريق الأطلس الصحراوي، وكان يصحبه في كل هذه الملحمة الرهيبة كسيلة الملك البربري المهزوم وأبي المهاجر دينار الوالي المعزول المهان.

وشتان بين السياسيتين، سياسة أبي المهاجر، وهي تجمع بين الشدة والصرامة وبين اللين والمجاملة، وبين سياسة عقبة بن نافع وكلها صلابة وشدة مراس وقوة لا تلين. لقد كان عقبة حانقاً على كسيلة الملك البريري لأنه صحب أبي المهاجر وأخلص له، كما كان حانقاً على أبي المهاجر الذي أهانه بأمر من سيده مسلمة ووضعه في القيود، ولم يعلم – أو هو علم بعد فوات الوقت ‏ – أن كثرة الضغط توجب الانفجار وأن الاستهانة بكرامة الرجال تحدث في ساعة الحرج شر النكبات.

كان عقبة – حسبما يرويه التاريخ – يتعمد إهانة كسيلة ويستصغره أمام الناس، وكسيلة يتحمل ذلك على مضض، ويضمر في نفسه الإقدام على انتقام عظيم متى وتته لذلك الفرصة، إلى أن كان حادث ذبح الشاة التي طفح بها الكأس حين أمر عقبة كسيلة بذبح الشاة ليأكل منها مع ضيوفه متعمداً بذلك إهانته والازدراء به، فقام كسيلة بذبح الشاة وأخذ يمسح بدمها لحيته، فإذا سأله القوم عن هذا العمل، أجابهم بأن ذلك يقوي شعر اللحية.

لكن أحدهم قال لأصحابه : إن كسيلة يتوعدكم فاحذروا، فإن مسح اللحية بالدم هو التهديد والوعيد، إنما عقبة العظيم لم يأبه لذلك، واستمر على سيره نحو القيروان. واغتنم كسيلة أول فرصة سنحت له، فغادر عقبة وجنوده فاراً بنفسه إلى بني قومه مستصرخاً البربر والروم للأخذ بالثأر. وقد كان يعلم من أقوال عقبة وأوامره أنه سيمر في طريق الرجوع على معقل « تهودا »، فاتصل بقومه على أبعد مدى وتواعد معهم على اللقاء حوالي تهودا، وهكذا أصبح كسيلة بعد إسلامه وطول صحبته أداة رهيبة للانتقام وما أصعب ثورة الكرامة المهانة.

وصل عقبة مدينة بريكة فاستقر بها حيناً وقد أمن على نفسه وجماعته، فأمر جنده القوي باستئناف المسير نحو القيروان وعلى رأسهم هنالك زهير بن قيس البلوى. ولم يبق عقبة معه إلا زهاء الثلاث مائة رجل، أما الجيش، فقد وصل القيروان بسلام، وأما عقبة العظيم، فما كاد يصل ناحية تهودا حتى وجد نفسه محاطا بأقوام أشداء يحدوهم حب الانتقام، وتغلى في صدورهم مراجل الحقد وقد دانوا بطاعة كسيلة واعترفوا له بسابقة ملكه وأطاعوه وأخلصوا في طاعته.

قلت في كتابي “قرطاجنة في أربعة عصور، تاريخ شمال أفريقيا قبل الإسلام”، المنشور سنة 1927م ما هذا نصه : 

“لقد كان البربر الناقمون يفتشون عن زعيم، فأعطاهم عقبة ذلك الزعيم”.

يومئذٍ أدرك عقبة غلطته وعلم أنه هالك لا محالة وسط تلك الجموع البربرية الرومية العظيمة وقد تجاوز عددها الخمسة آلاف، ولم يكن يدور في خلده أبداً وهو الأسد الهصور أن يستسلم هو وقومه للأسر، فعزموا جميعاً على الالتحام في معركة غير متكافئة نتيجتها الحتمية هي الموت المحقق والاستشهاد العظيم.

هنالك طلب عقبة من أبي المهاجر الحر الشريف أن يَنْسَلَّ من بين الصفوف وأن يلتحق بالقيروان ليتولى فيها إمارة المسلمين ويتدارك بسامي حكمته خطورة الموقف الرهيب. لكن تلك النفس العربية الأبية نسيت في ساعة الخطر ما لحق بها خلال سنة من مذلة وإهانة، وقال بنفس مطمئنة هادئة : لن أفر أمام الأعداء ولن أتركك وحدك في هذه الساعة الحرجة بل أبقى إلى جانبك لأذوق معك طعم الشهادة في سبيل الله، فلن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.

هنالك استل المجاهدون الأبرار سيوفهم ولثموا وجوههم واندفعوا بهمة من يريد الحياة الآخرة في الرفيق الأعلى، يخترقون صفوف الأعداء والموت يتلقفهم واحداً واحداً إلى أن تناولت كف الشهادة آخرهم وكان سن عقبة يومئذٍ 63 سنة.

يقول ابن خلدون: « وأجداث الصحابة بمكانهم من أرض الزاب لهذا العهد وقد جُعِل على قبورهم أسنمة ثم جصصت واتخذ على المكان مسجد عرف باسم عقبة وهو في عداد المزارات ومضان البركات بل هو أشرف مزور من الأجداث في بقاع الأرض لما توفى فيه من عدد الشهداء من الصحابة والتابعين الذين لا يبلغهم أحد.

وإن المرء ليعجب كيف تدعى تلك المعركة –أو المذبحة بصفة أخص- بمعركة تهودا وأنتم تعلمون المسافة بين تهودا وبين هذا المكان، ولا بعقل إطلاقاً أبدا أن تنقل رفات المجاهدين الشهداء الأبرار من تهودا البعيدة لكي تدفن هاهنا، فلا ريب أن المقصود في كتب التاريخ هو الناحية لا البلدة، والأجدر بنا في كتابة تاريخنا الجديد، أن نقول : معركة سيدي عقبة، وهي على الناحية التي كانت تعرف بأرض تهودا.

ثم إن أغلب المؤرخين لتلك المعركة الرهيبة يقولون: إن أصحاب عقبة ‏ الأبرار قد استشهدوا في تلك المعركة جميعاً وهذا غلط، لأن بعضهم وقع على الأرض جريحاً فقط، ولم ينل الشهادة وأسر بعد ذلك وبقي بين يدي كسيلة وأصحابه إلى أن افتداهم ابن مصاد صاحب مدينه قفصة فبعث بهم إلى أصحابهم بالقيروان ومنهم الصحابيان الجليلان محمد ابن أوس الأنصاري، ويزيد بن خلف العبسي ونفر معهما.

بلغت تلك الأنباء مدينة القيروان فهالها الأمر وارتاعت لهول الحادثة. فقام في العرب خطيباً الوالي زهير بن قيس البلوى وقال : يا معشر المسلمين إن أصحابكم قد دخلوا الجنة فاسلكوا سبيلهم أو يفتح الله عليكم ! فخالفه في ذلك حنش بن عبد الله الصنعاني إذ علم أنه لا طاقة أبداً لمن بقي من المسلمين بمهاجمة جموع البربر والروم المنتصرين، ورأى أن النجاة بمن بقي من المسلمين أولى. فلبى القوم نداءه إلا القليل منهم، وخرج من بعدهم زهير مع آل بيته. وجاء كسيلة، وقد أصبح له شأن عظيم، فتسلم مدينة القيروان في المحرم من سنة 64 هـ (684 م) ولم يبق منها من العرب إلا أصحاب الذراري والأثقال، فآمنهم كسيلة وبقي أميراً على القيروان خمسة أعوام استعاد فيها الروم شيئاً من أنفاسهم، لكن الله يمهل ولا يهمل، فما كادت الأمور تستقر في المشرق من جديد بعد الفتنة التي أوقد نارها الحاطبون إثر موت اليزيد وما كاد الخليفة عبد الملك بن مروان يوطد في دمشق أمره ويستعيد هيبة الخلافة حتى بادر باختيار جيش عظيم وسيره إلى إفريقيا من جديد لكي يعيد فتحها وينصر من بقي بها من المسلمين، العرب والبربر.

وهكذا، وبعد خمسة أعوام فقط من استشهاد عقبة وأصحابه الميامين، جاء جيش القائد العظيم حسان بن النعمان وفي يمينه السيف، وفي صدره القرآن، وفي فكره هداية الإسلام، فحارب وانتصر، وأقر الله به أمر الإسلام وحكم الهدى اليقين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.

وإنني لمقترح بهذه المناسبة على مجلس بلدية بسكرة المشكور على إقامة هذا الاسبوع الثقافي الجليل أن يطلق ابتداء من اليوم على الحديقة العامة ببلدة بسكرة وهي حديقة لاندو اسم حديقة الشهيد عقبة بن نافع رضي الله عنه وأرضاه.

إنكم سادتي وأبنائي لن تزالوا بخير ورفعة و سمو مستمر ما دمتم تذكرون أبطالكم وتمجدون شهداءكم وتحيون تاريخكم وتقومون أخلاقكم وما دمتم تصرخون كما صرخ من قبل آباؤكم : “الإسلام ديننا، الجزائر وطننا، العربية لغتنا” وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

والسلام عليكم ورحمة الله.

أحمد توفيق ‎المدني

Loading

اترك تعليقاً

error: Content is protected !!