في الذكرى السادسة والعشرون لوفاة الشيخ أحمد توفيق المدني بقلم الدكتور عمار طالبي

أقام نادي الصحافة لحزب جبهة التحرير الوطني يوم 08 ذي القعدة 1430هـ الموافق لـ: 27-10-2009 بفندق الرياض (سيدي فرج) ذكرى الشيخ أحمد توفيق المدني الذي ظلم، وصمت الناس عن جهاده، وأعماله في مجالات الصحافة والتاريخ، والجهاد السياسي.ولد الشيخ في أول أكتوبر سنة 1899 بتونس، وتابع تعلمه في المدرسة القرآنية، ثم بجامع الزيتونة وبالخلدونية سنة 1913، وكان منذ طفولته وطنيا مناضلا سياسيا، شارك في تأسيس الحزب الحر الدستوري بزعامة الشيخ عبد العزيز الثعالبي -رحمه الله- وسجن منذ سنة 1915 إلى سنة 1918، متهَما بالتحريض على مقاومة الاستعمار، وعين أمينا عاما مساعدا في الحزب سنة 1920.
وما لبث أن نفي إلى الجزائر موطن آبائه الذين هاجروا إلى تونس أثناء ثورة المقراني 1871.
وأصبح في الجزائر صحفيا متميزا، وكاتبا بليغا، وخطيبا مصقعا، كان يكتب “الشهر السياسي” في مجلة الشهاب ابتداء من غرة شعبان 1348هـ جانفي 1930 إلى أوت 1939.
شرع في تحرير “شمال إفريقيا” أو الشمال الإفريقي في 10 أكتوبر 1934 إلى أوت سنة 1939 (انظر الشهاب، ج. 11، مجلد 10).
كما كان يحرر منبرا مهما متميزا في تحليل الأحداث السياسية وهو “منبر السياسة العالمية” بدأ تحرير هذا المنبر في 29 أوت1947 وذلك في جريدة البصائر، وتواصل هذا المنبر إلى أن توقفت جريدة البصائر سنة 1956، باستثناء العدد الثالث من البصائر فإنه لم يكتب فيه.
فأول تحرير لهذا المنبر حلل فيه موقف مجلس الأمن من قضية إندونيسيا وهولندا المستعمرة التي قرر فيها المجلس إنهاء الاستعمار في هذا البلد، فكتب: “فقال مجلس الأمن كلمته القوية، وصرخ صرخته المدوية” (ص.4) ووصف هذا القرار بأنه انتصار للشعوب المستعمرة.
كما حلل مشكلة الهند وبريطانيا، وبين أن مجلس الأمن قرر أن تأخذ الهند مصيرها بيدها، وكذلك باكستان التي وصفها بأنها “أعظم دولة إسلامية، لاشتمالها على مائة مليون من المسلمين”.
ثم أشار إلى موقف مصر، ندا لند إزاء الانجليز أمام مجلس الأمن مطالبة بإلغاء المعاهدة التي تنص على بقاء الجيش البريطاني في قناة السويس، لأن ذلك يتنافى مع سيادة مصر، وقرر مجلس الأمن إجلاء هذه القوات عن مصر، وذلك يعود في نظره إلى سببين: تنامي الوعي القومي في مصر، ونضج الضمير الإنساني.
وتعرض لموقف فرنسا، ووصف الفرنسيين بأنهم: “لا يكادون يفقهون كأن كل استعمار ينهار إلا هم، وأن بلدان العالم أخذت تتحرر إلا المغرب العربي فإنه يبقى تحت سلطتهم”، ووصف هذا الموقف بأنه موقف جهل وغباء وغرور، وما يزال الفرنسيون يشرّعون للجزائر قانونا ودستورا، عبارة عن مخلوق عجيب”، ووصفه بأنه: “قانون مشوّه لا تقبله الأمة، وإن قبلته جماعة من النخبة قليلة فإنها لا تمثل الأمة”.
ثم انتقل إلى المغرب الأقصى الذي يطالب بإلغاء الحماية، والحصول على الاستقلال، فرمتهم فرنسا بالجنرال جوان ليزيد الطغيان السياسي طغيانا عسكريا، فاقترح الجنرال مجلسا للوزراء مناصفة بين المغاربة والفرنسيين تحت رئاسة جلالة السلطان، واستعمل رجال الطرق للدعاية لهذا الإصلاح المزعوم، ولشن حملة ضد السلطان، والافتراء على سيرته بأنها منافية للدين.
وأنهى تحليله بالوضع في تونس وبدأه بقوله: تونس! وهل أتاك حديث الوزارة الكعّاكية بتونس؟ ووصف المقيم العام الفرنسي بأنه يلعب ألاعيبه، وأن التونسيين يرفعون قضيتهم إلى هيئة الأمم المتحدة مطالبين بالاستقلال وإلغاء الحماية، وبيّن أنه توجد بتونس “حركة سياسية لا نظير لها في سائر أقطار المغرب العربي (يقصد الحزب الحر الدستوري) متحد قوي، مطالب بإلغاء الحماية، والاستقلال”، وأيده في ذلك علماء الدين، ووصف وزارة مصطفى الكعاك، بأنها “وزارة فرنسية لحما ودما وروحا”. وأنها فرضت على الباي فرضا، وكان مصطفى الكعاك عميدا للمحامين، ويشبّه الحال الذي اقترحته فرنسا على تونس، الحل الذي اقترحه الجنرال جوان على المغرب، نصف الوزراء من التونسيين ونصفهم من الفرنسيين، ووصفها أحمد توفيق المدني بأنها وزارة “فرنكوتونزيان”، وبين أن الوعي التونسي قد  بلغ نضجه، لذلك فإن هذه الوزارة لا تدوم، ولكن ما تزال فرنسا على عمايتها القديمة”.
وحلل في العدد 6 من “البصائر” (12 سبتمبر 1947) قضية فلسطين ووصف تقرير لجنة هيئة الأمم المتحدة، الذي أصدرته بجنيف بأنه كان تقريرا من أعجب وأغرب ما خرج من “قُحْفِ السياسة في عصرنا الحديث”.
ورأى فيه: “احتقار العرب واعتبارهم كمية مهملة، لا يؤبه لهم، ولا تراعى عواطفهم، ولا يقام لرضاهم أو غضبهم وزنًا، وأدى إلى وضعهم هذا تخاذلهم، وتفرق كلمتهم، وتغليب الأكثر منهم مصالح الذات، أو مصالح الطائفة، على مصلحة المجموع، وتعودهم الصبر على الأذى، والنوم على القذى، كل ذلك كان سببا مباشرا لتأصل هذه الفكرة في نفوس الغربيين عنهم، وقديما قال شاعرنا العظيم:
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها ** هوانا بها، كانت على الناس أهونا.
وأشار إلى مسألة تقسيم فلسطين، وفتح باب الهجرة لليهود، وأن بيت المقدس تكون تحت سلطة الأمم المتحدة في رأيهم، وإلى موقف شيخ من شيوخ العرب، وهو الملك عبد الله، ملك شرق الأردن، الذي يطمح إلى سوريا الكبرى، وهو أمر لا ترضاه السعودية ولا مصر ولا سوريا.
هذا نموذج من تحليله للأحداث السياسية، وإذا تابعت ما يكتبه عن الشرق الأقصى: قضية الصين، والهند، وباكستان، وأفغانستان، وإيران، وتركيا، وكوريا، واليابان، والاتحاد السوفياتي، وأوربا، والبلاد العربية مشرقا ومغربا، رأيت فكرا محللا ذكيا، ورجلا صاحب فكر استراتيجي سياسي قل نظيره في العالم الإسلامي في ذلك العهد، اعتبر قضية فلسطين قضية القضايا، وموقفه وتحليله ما يزال صحيحا إلى يومنا هذا، والوضع الذي أشار إليه هو الوضع اليوم في العالم العربي لم يتقدموا خطوة قال: “ألا ترى العرب يكتفون يومئذ (يوم عرض القضية في هيئة الأمم المتحدة)، بإلقاء الخطب الرنانة، وعقد الاجتماعات التظاهرية، وإرسال برقيات الاحتجاج؟”
ثم حمل ملوك العرب مسؤوليتهم: “في أعناقكم، العروبة يا ملوك العرب أما مسؤوليتكم أمام الله، فأنتم أدرى بها. أما نحن أهل المغرب العربي فنحن ننتظر، ونحن على استعداد لنأخذ قسطنا في إنقاذ فلسطين.” (البصائر 26 سبتمبر 1947 ص. 05).
ويبن رأيه بصراحة فقال: “لقد كنت وما زلت ولن أزال مقتنعا بأن قضية فلسطين لن تحل إلا بواسطة السلاح وبواسطة القوة… ولن تكون قوة، ولن يمكن سلاح إذا اختلفت القيادة”: (البصائر 27 سبتمبر 1948).
حياته الصحفية حياة فكر حر، يقول: “ما كنت ولن أكون في حياتي السياسية والصحفية إلا الرجل الذي يقول ما يعتقد، ويكتب ما يفكر، ويصارح الناس برأيه، ولو خالف ما يكتبون، أو نطق بغير ما يشتهون” (البصائر 18 أكتوبر 1948 ص.04).
كما أنه يبين منهجه الصحفي السياسي في “كلمة هادئة” قال: “إذا ما أمسك أبو محمد (يعني نفسه) بقلمه، وأخذ يسطر فوق القرطاس كلماته فإنه لا يضع أمامه إلا الحقائق الناصعة، يستجلي أسرارها، ويسبر أغوارها، ثم هو لا يقيس الحوادث السياسية إلا بمقياس المنطق والمعقول، ولا يحكم فيها إلا فكره وضميره، غير خاضع لأي تأثير أجنبي، حزبيا كان أو دوليا، أو عاطفيا فأبو محمد لا يأبه لغضب الأمريكان، والانجليز ولا يحسب حسابا لأي مستعمر غشوم، ولا يقيم وزنا لأي رأسمالي مهما كان شأنه… ولا يحاول أبو محمد استرضاء الروس أو استعطاف الشيوعيين” (البصائر العدد 10 -13 أكتوبر 1946 ص4).
وهو يتفق مع الشيخ الإبراهيمي العبقري في تحليل موقف العرب واليهود من فلسطين، قال الإبراهيمي: “تالله ما ضاعت فلسطين اليوم، ولكنها ضاعت يوم وُعدوا بها، فركنوا إلى العمل، وركنتم إلى الكلام… لكنهم كانوا أيقاظا وأنتم رقود، أمعنوا في الاستعداد، وأمعنتم في الرقاد، اعتمدوا على العلم والريال، واعتمدتم على الجهل والخيال، جاءوكم بصف واحد، كملمومة الصخر، وجئتموهم بصفوف متخاذلة..” (البصائر 11 أفريل 1949).
هل يختلف وضع العرب كما وصفه أحمد توفيق المدني والإبراهيمي في ذلك العهد عن وضعهم اليوم، أم هو أسوء وأنكى وأمرّ.
وأختِم هذه الكلمة بوصف الشاعر النابغة الشيخ أحمد سحنون -رحمه الله- في وصف أحمد توفيق المدني:
(توفيق) أُعطِيت توفيقا وتسديدا
فاكتب وجدد عهود الضاد تجديدا
منحت موهبة التاريخ فأحييت به
أمجاد قومك إحياء وتخليدا
نهجت نهجا في البحث قد عرفت به
شر المناهج ما قد كان تقليدا
تقلا عن موفع البصائر، http://www1.albassair.org/modules.php?name=News&file=article&sid=1342

Loading

Bookmark the permalink.

اترك تعليقاً