عبد الحميد بن باديس، الرجل العظيم

هذا نص محاضرة ألقاها الأستاذ المدني رحمه الله ننشرها اليوم بمناسبة ذكرى وفاة إمام النهضة الإسلامية في الجزائر الشيخ عبد الحميد بن باديس نقلتها من كتاب “محاضرات في اللغة والفكر والأدب” المطبوع ضمن سلسة “آثار الأستاذ أحمد توفيق المدني” ط. دار البصائر، الجزائر، 2008.

عبد الحميد بن باديس وأحمد توفيق المدني في 18 أغسطس 1930

عبد الحميد ابن باديس، الرجل العظيم

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول لله

‏سادتي الجلة، إخواني الفضلاء، ‏سيداتي الصالحات:

إنا نجتمع اليوم، ‏كما كنا نجتمع في مثل هذا اليوم منذ قرابة الأربعين سنة، وعيوننا دامعة، وقلوبا خاشعة، في ذكرى ‏بطل من أكبر أبطالنا، وعظيم من أبرز عظماءنا، وقائد من ألمع قادتنا التاريخيين عبر مئات الأجيال. ذلك الذي اتخذ العلم سلاحاً، وتسربل العقيدة وشاحاً، فنفخ في الأمة روح الأمل، وبذر فيها بذور العمل، وتقدم عملاقاً في ميادين الكفاح، دون وهن أو وجل، فسطع النور من فمه ومن قلمه، وتقشعت السحب، وارتفع صوت الحق، ووهت حجة المبطلين، وتلاشت أكاذيب وترهات الدجالين، في السياسة وفي الدين، وأخذ شعبنا العملاق يسير مذ تلك الأيام قدماً نحو أهدافه السامية، مستنيراًبتلك المبادئ، سالكاً ذلك الطريق المستقيم، طريق الفدائية في العلم والعقيدة، وطريق الفدائية في القراع والجهاد

ذلك هو الرجل العظيم الذي غرس فأكلنا، والذي بنى ‏فسكنا، والذي عبَّدَ الطريق فسلكنا، والذي فجر نور الهدى واليقين فاستضأنا، -أي وربي- ذلك الرجل العظيم هو عبد الحميد بن باديس.

فإذا كانت الجزائر الحرة المستقلة – وهي ترتع تحت أعلام النصر المبين-، قد اتخذت من يوم ذكراه الخالدة عيداً للعلم، ومهرجاناً للثقافة، فقد وفته حقه.

لنقف هنا قليلا،ً أيها السادة، قبل الإلمام بتطورات هذه الحياة القصيرة بمداها، الطويلة بآثارها، لنعرف ما هي حقيقة الرحلة الكاملة وما هي عظمة الرجل في التاريخ.

‏ليس الرجل هو الذكر البالغ من بني آدم كما يعرفه الأقدمون، فالذكور قديماً وحديثاً كثرة كاثرة، أما الرجال الحقيقيون فهم ندرة غالبة، ولقد يمر جيل، أو تمر أجيال بشعوب عدة، لا تعرف فيها رجلاً، تعيش خلالها عيش السائمة، وتموت خلالها موت الحشرات حتى إذا ما قيضت لها العناية الإلهية رجلاً حقاً أخرجها الله به من الظلمات إلى النور وبوأها به مقامأ محموداً بين الأمم.

إنما الرجال الحق، أيها السادة والسيدات، هو الرجل الذي يعين بفكره، ويحيا بقلبه، ويشعر بإدراكه، ‏ويسخر الحياة وما فيها لنفع المجموع، ‏ولا تسخره الحياة لخدمة الجسم الفاني وشهواته ومطالبه.

‏إنما الرجل الحق، أيها السادة والسيدات، هو الذي يسيّر ‏بقوته المجتمع، إلى حيث يريد، لا الذي يساير المجتمع، ويذوب ويتلاشى فيه، ويضمحل معه.

إنما الرجل الحق، أيها السادة والسيدات، هو الذي ينشأ لغاية، ويعمل لهدف ويعمل لعظيم، تستفيد منه الجماعة، ولا يستفيد هو من الجماعة. يذوب في سبيل النفع العام، ويتخذ من كل قواه سلماً تتدرج عليه الأمة نحو المعالي والكمال.

‏إنما الرجل الحق هو صاحب المبدأ الذي لا يتزعزع، والعقيدة التي لا تؤكل من أطرافها، والسعي المتواصل الذي لا يكل ولا يمل، والإيمان الراسخ الذي تذوب الجبال ولا يذوب، يقول كلمة الحق في وجه الظالمين ولا يخاف عقباها.

إن هذا الرجل، بهذه الصفات التي ذكرت، ‏هو عبد الحميد بن باديس.

ثم ما هي العظمة، سادتي وسيداتي، بالنسبة للرجل؟

‏إننا لا نفسر هذه الكلمة لغوياً، ولا نفسّرها فلسفياً، فالتفسير اللغوي والتفسير الفلسفي لا يكفيان عندي لبيان المعنى العميق لهذه الكلمة. إنما تفسيرها التاريخي، إذا ما نحن وعينا التاريخ واستخرجنا منه حكمته وفصل خطابه هي: فناء الفرد في سبيل المجموع، بصفة يبقى أثرها حياً في ذلك المجتمع، أجيالاً عديدة، بعد فناء الفرد.

‏كان أول عهدي به، وبين رحاب جامع الزيتونة الرفيع العماد، أيام كان كعبة القصاد، في حلقات حية عامرة، فيها ‏العلم، وفيها التقوى، وفيها الصلاح، أتلقى على شيوع جلة فيضاً من العلوم، اتسعت بها المدارك، وسما بها الفكر. كنت مبتدءاً يومئذ في التعليم العالي، وكان رجلنا العظيم منتهياً. وبيني وبينه في السن عشرة أعوام. إنما التقينا معاً على العلامة الشيخ محمد النخلي في دروسه المجمعية في علم التفسير، وكان عبد الحميد يناقش ويجادل، ولا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا تصدى لها بحثاً عميقاً، وكان الشيخ محمد النخلي، كما كان كبار الطلبة، يعجبون بتلك المناقشات الباهرة، والمجادلات العميقة التي تفتح أمامهم آفاقاً فسيحة من .الفهم والإدراك. والغوص العميق في معاني القرآن الشريف وإعجازه.

‏وكنا نجتمع حول كتبي واحده هو محمد الأمين، نطلع عنده على كل جديد أخرجته مطابع الشرق،كنا نطالع كثيراً ولا نشتري لقلة المدد إلا قليلا.وكان الطلبة يصولون ويجولون في أغلبه الميادين، خارج ساعات الدراسة، أما الشيح فكان يؤم تواً غرفته البسيطة، يطالع ويدرس ويخطط للمستقبل، لا يجادل إلا في علم، ولا يتحدث إلا عن مستقبل الجزائر الذي كان يريد بناءه من جديده فوق أسس من الدين والعلم والهدى ‏والجهاد.

‏ثم افترقنا ولكل وجهة هو موليها، فاستبقوا الخيرات. أم مسقط رأسه قسنطينة الغناء، حيث رفع لواء التبشير العلمي وجاهر بدعوة التجديد والإصلاح، سائراً مع القاعدة القرانية: “أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي أحسن”، فالغاية عنده هي الوصول بالشعب إلى المستوى الرفيع الذي يحطم ويلات الحاضر الأليم، ويقيم أسس الجزائر المقبلة، الواعية العاملة، الهادفة، بينما انضممت أنا في غمرة من التفاؤل، وفي اندفاع ثوري عارم، إلى صفوف الحزب الحر الدستوري الناشئ، فما عتم عبد الحميد أن أصبح في قسنطينة ناراً على علم، وما عتم أخوكم هذا أن أصبح أميناً عاماً مساعداً لحزب الأحرار الدستوريين، ثم جمع الله بيننا بعد حين، فإذا بنا نسير في طريق واحد لا التواء فيه، طريق زرع أشواكاً واكتنفته العراقيل، وحف بالمكاره، إنما كنا نرى في آخره، بفراسة المؤمن الصادق، استقلال أوطاننا، واتحاد مغربنا الكبير وسعادة شعوب الإسلام، وارتفاع شان الدين أعلى عليين.

قصّ علي يوماً بين أكام من الكتب بمكتبة الخلدونية، قصة زيارته للحرم المدني الشريف وما رأى في مدينة الرسول -عليه الصلاة والسلام- من سمو ومن انحطاط، وما شاهده في بعض علمائها -وكان فيها علماء جلة- من ارتفاع في المدارك، ومن سفالة في الأخلاق، قال: “وقفت وقفة إجلال وخشوع أمام قبر محمد وصاحبيه، وأحسست أني قد تجردت يومئذ من كل شوائب البشرية، وأصبحت روحاً صافيةً طاهرةً، وغابت عني كل ملابسات الزمان والمكان، وخاطبت روح محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكانني أراها، فقلت: ” ‏يا رسول الله، هذا عهد بيني وبينك، لأعيشن في سبيل دينك وأمتك مجاهداً ولأموتن في سبيل دينك وأمتك شهيداً. والله على ما أقول وكيل”‏.

‏ولقد بر بوعده برور الرجال العظماء. فما قضى يوماً من أيام حياته الغالية إلا مجاهداً كريماً، وقد أخذ الداء الفتاك يستأثر بجسده الواهي، وهو لا يأبه بذلك ولا يستمع إلى أقوال الأطباء إلا قليلاً. ولطالما وصفوا له الدواء، فإذا بالأيام تمر تباعا، والدواء عند رأسه باقياً على حاله. كان رحمه الله لا يأبه بالجسم، إطلاقا أبداً، بل كانت القيمة الوحيدة لديه هي الروح، كان يتعاهدها، كان يطهرها، كان يغذيها بالتقوى والإيمان، كان يرعاها ببث العلم بين ناشئة الشعب، وتفجير طاقات الهدى بين كل الأمة، وتحطيم جدران اليأس والخيبة التي أحاط بها الاستعمار بلادنا المجاهدة، بعد تضحياتها الجمة وكفاحها ‏الغزير.

‏قلت له يوماً في مكتبي، وقد رأيت علامات الفاقة والإعياء، يا أخي: أما آمنت بأن لنفسك عليك حقاً؟ أما قرأت تفسير قوله تعالى: “ولا تنسى نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحين الله إليك” فأجاب في هدوء غريب: “كلا يا أحمد. ما عملت طول حياتي إلا بهذه الأية الكريمة.إن نصيبي هو بث العلم، وإعداد الناشئة ليوم رهيب، وتجهيز الشعب بما يقوي روحه ويرجع له الأمل، وحفر الأسس العميقة التي يقيم عليها الشعب جدار حياته الحرة المقبلة. وبذلك في نفس الوقت ‏أحسن كما أحسن الله إلي.

‏وانتصب الرجل العظيم مدرساً، واتخذ من مسجد سيدي قموش بقسنطينة معقلاً له. وأخذ الطلبة يتوافدون عليه من كل ‏حدب، فغصت الرحاب، وضاقت حلق الدرس، وما ازداد خبره انتشاراً، إلا ازداد عدد الطلبة حول ذلك المعقل النوراني العظيم وإلى أن أصبح ذلك المعهد الصغير يضم ما يزيد عن الألف من الطلبة، وكان يلقي عليهم ومن بعد صلاة الفجر إلى بعد صلاة العشاء كل يوم ما عدا الجمعة سبعة دروس تتناول مختلف علوم الإسلام.

‏ولم تكن عظمته، سادتي وسيداتي، مرتبطة بذلك الكم من الدروس المختلفة المتباينة، بل كانت العظمة مرتبطة بكيفية تلك ‏الدروس، بمناهجها، بالفكرة العالية التي تمليها وتهدف إليها. فقد كان في تفسيره لآيات القرآن وللمنتخب من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، يبث آراء وأفكار ابن تيمية السلفية الصالحة، ويحارب بشدة وصلابة تلك الخرافات التي ألصقت بالدين، وهو منها براء، وما أصبح للناس من الدهماء ومن أنصاف العلماء عقيدة راسخة من أباطيل وترهات الإسرائيليين.

‏لقد كان رجلنا العظيم متصلأ متصلاً منذ أن شب في العلم عن الطوق، بجماعة العروة الوثقى السلفية التي أسسها مصلح الإسلام العظيم، جمال الدين الأفغاني الداعية المفوه المحجاج، كما اتصل اتصالاً وثيقاً بالشيخ رشيد رضى صاحب مجلة المنار الإسلامي، وراوية شيخ الإسلام محمد عبده وكانت بينهما مناقشات ومجادلات.

‏كانت كل هاتيك الأفكار والمعاني والآراء تملأ دروس الرجل العظيم وتسيل مع روعة بيانه حكمة وفصل خطاب، ‏يتلقاها الطلبة الميامين بقلوبهم لا بآذانهم، وتعيها أنفسهم الطاهرة، ثم هم يتحدثون عنها ويبشرون بها ويجادلون المخالفين ‏فيها.

‏أما في التاريخ فقد اتخذ منهاجاً ثورياًيقوي النفوس ويبعث ما نام من العزائم، متخذاً من سيرة الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام مثلاً يحتذى في القوة والشجاعة والبأس، ونصرة الحق ومحاربة الباطل، والثبات على المبدأ والصبر على الأذىء وبناء المستقبل الزاهر الشريف لبنة لبنة، وجمع الفئة الصالحة من رجال الأمة حول كلمة الله، ليقارع بهم الفئة الطالحة المضلة منها، واتخاذ المواقف المختلفة من السماحة إلى الشدة حسب مقتضيات الأحوال محتجاً بقوله تعالى في موقف اللين: “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلى بالتب هي أحسن”، وبقوله تعالى في موقف الشدة والصلابة: “يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم”.

‏وهكذا كان يتخرج من بين يديه رجال ودعاة وقادة، رأيناهم -ولا نزال والحمد لله نرى بقاياهم- يتبوؤون المقاعد الأولى في مختلف نواحي الكفاح الإسلامي الوطني وكان لهم، يشهد بذلك العدو والصديق، القدح المعلى في معمعة الكفاح الوطني الذي جعل لحمته الدم القاني وجعل مداه الأرواح الطاهرة يقودون الكتائب ويبشرون بنصر الله إلى جانب إخوان لهم أموا المعركة مجاهدين، لا يعرفون إلا أنهم جنود الله وأنهم يموتون في سبيل الله، فكانوا في ساعات الراحة وبين قصف المدافع ألسنة اللهب يجلسون إلى إخوانهم أبناء باديس ‏العظيم، أو التابعين لهم بإحسان يتلقون منهم ما أحرمهم الاستعمار اللعين من أسرار الدين وعظمة الإسلام، وما أعده الله للمجاهدين وللشهداء.

‏بل إن مراكز التجمع والمحتشدات، وساحات السجون المختلفة قد أصبحت بنعمة من الله وفضل، حلقات دروس تفيض علماً وحكمة وتوجيهاً، تتدفق من أفواه أبناء باديس فتغذي العقول وتفتح الأفكار وتجمح إلى روح التضحية والفداء نور العلم والتقوى.

‏واقتحم عبد الحميد الرجل العظيم إلى جانب ميدان نشر العلم وبث الدعوة الإصلاحية، ميداناً جديداً هو ميدان الحياة الصحفية-وما أوسع هذا الميدان وما ألذ الكفاح فيه- ولعل الكثير منكم سادتي وسيداتي، لا يعلم أن ابن باديس قد استهل حياته الصحفية بمقالات متواصلة كان ينشرها في جريدة بيروت: ‏”النجاح”، لأول عهدها. ولعل الكثير منكم لا يعرف كذلك أن ابن باديس كان يتخذ يومئذ لمقالاته إمضاء مستعاراً هو العبسي (مستمداً ذلك الاسم من شهامة وهمة وإقدام عنترة بن شداد العبسي.)

‏ثم تقدم خطوة أخرى جريئة كان لها الأثر الكبير الفعال على حياته وعلى حياة الأمة معا، بتأسيسه لمجلة المنتقد التي ما عاشت إلا قليلاً جداً ولقد فوجئت الحكومة الاستعمارية وكل الأوساط الرجعية بتلك المجلة التي أقضت مضجعها، فقضت عليها لكنها كانت قد فتحت في عالم النشر وعالم الدعوة ‏الإصلاحية والاجتماعية صفحة جديدة خالدة لا تبليها الأيام.

كنا يومئذ نجتاز سنة 1925م، وكان من ثمرة كفاحي بتونس في ميداني السياسة والمجتمع أن ضاق بي الاستعمار الفرنسي ذرعاً، وما أغنى عنه شيئاً ما صدر منه نحوي من وعد أو من وعيد فأصدر أمره بإبعادي عن تونس بسرعة خاطفة، فما شعرت بعد إبلاغي الأمر إلا وأنا بسيارة تنهب بي الأرض نهباً إلى أن سلمتني لمحافظ الشرطة في مدينة عنابة، وأنا كما قال الحريري: “لا أملك بلغة ولا أجد في جرابي مضغة” إنما وجدت بعنابة أهلي وعشيرتي من أبناء الإسلام وأشبال الوطنية ثم مرت بعد إقامة قصيرة إلى مدينة قسنطينة، وكأنني حللت جنة وارفة الظلال، وكنت أكاد أشم ريح النهضة يعبق من بين جدرانها وتتدفق سيول الأمل والعمل من بين منازلها.

‏واجتمعت بالرجل العظيم عبد الحميد بن باديس. كان لقاؤنا نورانياً، ما ذكرته إلا واقشعر جلدي وتوقف نفسي لروعة ذلك اللقاء ولجسامة ما تم بعد ذلك اللقاء، كنت خلال أسبوع بتلك الديار القسنطينية أسبح في بحر من نور وأسري في سماء من أمل ورجاء وكفاح، واجتمع برجال أبرار كانوا حول ابن باديس كالحواريين حول عيسى ابن مريم. ثم غادرت قسنطينة مكرهاً لأفتتح بعاصمة الجزائر صفحة عمل وصفحة أمل، بعد أن تعاهدت مع ابن باديس وصحبه على القيام بعمل مشترك من ورائه حياة الأحرار أو موت الشهداء الأبرار.

‏إنكم ستجدون،سادتي وسيداتي، حديثاً مفصلاً ممتعاً على ‏ما أظن طويلاً عن هذا الأسبوع الذي قضيته في ميدان الحياة الحرة الكريمة بمدينة قسنطينة. وقيمة ذلك الأسبوع عندي قيمة عمر كامل في مستهل الجزء الثاني من مذكراتي “حياة كفاح” الذي سيصدر بحول الله وبفضل الشركة الوطنية للنشر والتوزيع بعد نحو شهرين، إنني لا أقول هذا دعاية لكتابيه ولا تنويهاً بنفسي، وهي لا تستحق أي شيء، بل أقوله ليعلم الناس كافة ودعاة العمل والإصلاح السلفي بصفة أخص: أن التاريخ الحق لا يغفل شيئاً، “ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره”.

 تعهدت لابن باديس يومئذ وأصحابه، أن أحرر لهم مقالاً لكل عدد من الشهاب الأسبوعي يتناول السياسة الخارجية بصفة توجيهية من باب “إياك أعني فاسمعي يا جارة” كما اتفقنا على أن يكون مقالي خلواً من كل إمضاء، حتى لا تتخذ الإدارة من ذلك ذريعة لإلحاق الأذى بالشهاب بدعوى أنني من رجال اللجنة التنفيذية بالحزب الدستوري التونسي وأنني أتعمد بمقالاتي تلك، بث الروح الحرة الدستورية بالبلاد الجزائرية.

‏فما كاد يتعطل الشهاب الأسبوعي حتى خلفه الشهاب الشهري في حلة قشبية يحمل كل شهر لقارئه ما لذ وطاب من حديث الدنيا والدين، مبشراً بالفلاح والنصر المبين قوماً مؤمنين. وأسس له مطبعة خاصة به تامة التجهيز، وإن مجموعة الشهاب، سادتي وسيداتيي لن أمتلكها لخير ذخر وأسمى ونبقة، تجلوا الغبار عن عهد بناء مشمخر متين الأسس، لقد كان الفاتحة الطيبة للمسيرة الصالحة الجريئة التي أنشلت الأمة الجزائرية من ‏وهدة الإفلاس في السياسة، ونكبة التنكر في الدين، فاندفعت جريئة جامحة تحطم ما يستحق التحطيم وتبني ما هو واجب البناء، إلى أن استوى العود وبلغت الأمة أشدها فإذا بها المارد الجبار الذي قهر الاستعمار، ورفع لواء الأحرار بفضل المجاهدين الأبرار وللحرية والاستقلال عقبى الدار.

‏ولقد تفاقم أمر الطلبة حول ابن باديس، وجاؤوا من كل آفاق البلاد، كطليعة رواد تنهل من معين العلم وتتغذى بأسمى الأفكار وتتلقى من المنبع أصول التضحية والجهاد، وكان أولئك الطلبة الوافدون لا يجدون غالباً ما يسدرن به الرمق، فقد كانوا في جهاد عنيف بين الروح وبين الجسم، تلك تريد علماً وهو موجود، وذلك يريد غذاء وهو مفقود.

‏وإذا كانت النفوس كباراً     تعبت في مرادها الأجسام

‏يومئذ ابتكر ابن باديس العظيم مشروع صندوق الطلبة وأعلن عنه للأمة في الشهاب، فإذا بالأموال تتدفق على ذلك الصندوق وإذا بالبائسين من الطلبة يجدون يومياً بواسطته ما يقيهم قاتلة غائلة الجوع. فأقبلوا بأرواح مطمئنة وأنفس طاهرة على العلم الصحيح وعلى الفكر الصحيح، يعبّون من ذلك عباً إلى أن صاروا، أو صار أكثرهم على الأصح، من الدعاة المصلحين ومن العلماء العاملين ومن القادة المؤمنين.

‏لكن الطلبة ازداد عددهم إلى أن كادت تضيق بهم المدينة الطيبة كما أن عدداً من أوائلهم قد تخرج من تلك المدرسة ‏الصغيرة بحجمها، الكبيرة بأعمالها وبنتائجها فاتحة يومئذ تفكير الرجل العظيم إلى إبراز مدارس التربية والتعليم إلى الوجود، وهي مدارس ابتدائية ما كادت تنشأ حتى انتشرت وعمت، ولقد كان تأسيسها نتيجة تخطيط محكم ودراسة عميقة، بحيث أنها كانت تهيئ الولد الصالح علمياً وفكرياً لولوج مراحل التعليم التكميلي الذي كان يباشره ابن باديس بنفسه، وهكذا أصبحت ألمدارس الحرة تنمو بسرعة في مختلف جهات البلاد، تسودها فكرة الإصلاح الإسلامي ويغذيها الإيمان بمستقبل الوطن.

‏أخذت يومئذ تتصاعد نحو السماء أصوات شعب بعثه الله بعثاً جديداً، ينادي بالإصلاح الديني والتحرر السياسي، تغذيه العقيدة ويدفعه الشعور، والشهاب من وراء ذلك يمد الحركة الناشئة بفيض من الوعي والإدراك، واندفعت الحركة اندفاعاً صاروخياً لا يرجع أبداً على الأعقاب.

‏هنا كان رد فعل إدارة الأمور الأهلية قوياً، إنما لم يكن مجدياً ولا فعالاً.

‏أوحت إلى رجال الطرق الدينية التي أصبحت في غالبها أداة ارتزاق واستثمار، بأن يحزموا أمرهم وأن يظهروا بمظهر القوة، لأن حركة الإصلاح كادت تكتم أنفاسهم وتسد دونهم كل المسالك، وهكذا نشأت في البلاد حركة الطرقية الموحدة واجتمع ضعيفها إلى ضعيفها فتكونت منها عصبة ضعيفة بنفسها، متماسكة بفضل من كان يمسك من وراء ستار شفاف بخيوطها، وأخذت تلك العصبة تقاوم فكرة الإصلاح الإسلامي، وتدافع ‏كما كانت الجاهلية الأولى تدافع عن معتقدات الآباء والأجداد.

‏لكن شاعراً عربياً قديماً قال:

‏وإذا أراد الله نشر فضيلة     طويت أتاح لها لسان حسود

‏لقد كانت هذه الحركة المبطلة شرأ وبيلاً على أصحابها، ووسيلة من أحسن وسائل نشر الدعوة للإصلاح ولرجال الإصلاح، وقد كثر عادهم وبرزت صحفهم وشحذت أقلامهم فأصبح القطر الجزائري كله من أقصاه إلى أقصاه مجال معركة هائلة قلمية وشفوية بين رجال الإصلاح والوعي والمستقبل الحر السعيد، وبين رجال الرجعية والجمود والاستخذاء، وكما كان النصر في معركة العلم والتعليم والإرشاد مبيناً واضحاً، كذلك كان النصر في المعركة بين التطور والجمود مبيناً واضحاً، وكانت صورة رجلنا العظيم ابن باديس تشرف على ذلك الميدان الفسيح كأنما هي راية النصر المبين، وانتقلت المعركة يومئذ إلى العاصمة فلقد أفلحنا سنة 1927م بتأسيس “نادي الترقي” ودعونا يوم افتتاحه رجلنا العظيم ابن باديس لإلقاء محاضرة يختار بنفسه موضوعها، فجاء رحمه الله مسرعاً، وألقى تلك المحاضرة التي كانت أشبه شيء بإلهام حركت الهمم وألهبت المشاعر ورأى الناس رأي العين حقيقة ما يجب أن يقوم به العالم المعمم والعلماء ورثة الأنبياء ألا وهو قول كلمة الحق وإرشاد الناس إلى الطريق المستقيم، ودفع الأمة دفعاً إلى ما يحييها ويرجح كرامتها ويبعث مجدها ويبوئها مقعد صدق بين الأمم الحية الناهضة.

وكان رجلنا العظيم إذا خطب أتى بالعجب، كان لا يتكلم بلسانه بل كان يتكلم بقلبه وشعوره وإحساسه، وكانت كل كلمة تخرج من فمه وكأنها السهم الصائب الذي يحيى ولا يميت فمن أصابه ذلك السهم دبت فيه بذور الحياة الأبدية، كان إذا تكلم غاص في بحر حديثه وأغمض عينيه حتى لا يرى الناس إلا بمرآة قلبه وكأنه يناجي كل أحد منهم على انفراد إلى يقنعه، وأشهد أنني ما رأيت فوق رقعة أرضنا هذه خطيباً مصقعاً يصيب المحز ويتغلغل في أعماق العقول والقلوب ويهز المشاعر هزاً عنيفاً كرجلنا العظيم ابن باديس، لقد كان في خطبه أسمى وأعلى مما كان في كتابته. كان يكتب كتابة العلماء المصلحين، وكان يخطب بلسان المدرسين من رجال الفكر والحكمة والسياسة.

‏ولقد أم تونس يوماً وهو منتدب لإلقاء كلمة باسم الجزائر، ضمن إطار الجمعية الخلدونية في ذكرى الراحل الكبير والمعلم الأول البشير صفر رحمه الله، وفي تونس كما تعلمون سادتي وسيداتي خطباء فحول ومتكلمون بلغاء، فما وصلت وثبة الكلام إلى ابن باديس حتى تفجر ينبوعاً صافياً يروي الناس بفيض من العلم والإخلاص والفكر الحر والتوجيه الصادق، ويصوغ المعاني الرفيعة الدقيقة في قوالب جميلة مستحسنة تدخل الأذن كما قيل بغير إذن ويتذوق السامعون لذتها ويعون معانيها ويدركون جد الإدراك مغازيها، حتى إذا ما انتهى خطابه قال الناس جميعاً: هذا هو الخطيب.

‏أما نحن ها هنا بعاصمة الجزائر، وفي عدد جم من مدن الجزائر، فقد استمتعنا كثيراً بتلك الخطب الفياضة الملهمة حتى لوددنا أن نقضي الجزء الأكبر من حياتا ونحن نسمع ونستمتع وقلوبنا تطير فوق أجنحة الأمل نحو المستقبل السعيد والهدف المنشود.

‏قال يومأ في اندفاع ثوري بديع : لبست الأمة أمة يجمعها بندير ويفرقها عون بوليس، أما هذه أمتا أمة الجزائر في ميدانها الإصلاحي الاجتماعي التحرري لا يجمعها إلا الله ولا يفرق بينها إلا الموت.

‏وجاءت الساعة الحاسمة، سادتي وسيداتي، جاءت ساعة ظهور الحق، جاءت ساعة بروز الأمة نحو الحياة الحرة الكريمة الواعية الهادئة، جاءت ساعة تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فلقد نادينا بها من نادي الترقي ودعونا لتأسيسها مائة من علماء القطر الجزائري لا فرق بين مصلح وبين طرقي.

‏فلبوا جميعاً النداء في اندفاع إسلامي طاهر نقي، وأموا ساحة نادي الترقي الفسيحة يتلألأ فوق جباههم نور الإيمان ويشرق محياهم بصدق العزيمة، وكان جمعهم أية من آيات إعجاز هذه الأمة الطاهرة التي ما دعية لمكرمة إلا استجابت، وما انفتح أمامها باب من أبواب الأمل إلا ولجته، غير هيابة ولا وجلة، كان ذلك جواباً عنيفاً شديداً قاسياً للاستعمار الفرنسي الأخرق الذي احتفل منذ سنة بمضي مائة عام على احتلال الجزائر وإذلالها وإرضاخها عنوة واقتداراً لأفظع استعمار وأشنع ‏استثمار، ونادى يومها بأعلى صوته: إن الجزائر قد أصبحت فرنسية والى الأبد. وجاء علماء الجزائر وكأنهم أشباح الدراما برزت من أجداث شهداء الحرية والاستقلال يقولون لفرنسا وللعالم الذي كان ينظر وينتظر: كلا، بل الجزائر عربية مسلمة حرة إلى الأبد.

‏إن صوت الأمة كما قال الرومانيون هو صوت الله، فلقد خسئت منذ ذلك اليوم كلمة فرنسا الاستعمارية، وصدقت كلمة ‏الأمة في ندائها بالعروبة والإسلام والحرية إلى الأبد، نعم إلى الأبد.

‏يومئذ فتح أمام رجلنا العظيم، الذي اختير رئيساً بإجماع، ميدان فسيح للعمل والسعي والجهاد، يومئذ رأى عظمة المسؤولية وخطورة الموقف وصعوبة الوصول إلى الهدف، ويومئذ رأينا نحن ويا لعظمة ما رأينا: رجلاً نحيلاً ضامرأً طال وطال إلى أن أربى قمم الجبال، رأينا عزيمة قدت من زبر الحديد تجلت فوق الميدان فغمرته وعمرته، رأينا إيماناً يفيض ويشع حتى ملأ البلاد نوراً ويقيناً، رأينا إقداماً على التضحية والفداء يفوق كل ما كنا نعرف عن التضحية والفداء، رأينا الصورة الحقيقة لعبد الحميد بن باديس التي سيطرت وهيمنت على الرجال وعلى الحوادث والتي تضاءل أمامها كل مبطل والتي انهار تجاهها كل جبار عنيد.

‏جاءنا عبد الحميد يوماً إلى النادي وكنا جماعة ننتظر رجوعه من الولاية العامة. فقال : اليوم أدركت السر في أن ‏محمداً نشأ وعاش يتيماً. فلقد وقفت اليوم أمام والدي محمد المصطفى بن باديس وهو يجلس إلى جانب ميرانت مدير الأمور الأهلية موقفاً أرجو أن يحتسبه الله لي يوم القيامة، فلقد ابتدرني ميرانت بحديث حلو العبارة مر المذاق وقال لي : يا شيخ اترك عنك هذا العار، اخرج من هذه الحشومة ودع هذه الجماعة المسكينة التي جمعها عدو فرنسا بالنادي فليس هؤلاء الرجال رجالك، وليست هذه الحثالة من الطلبة ممن يفتخر العالم بالانتساب لهم وأن يكون رئيساً عليهم. قال: واستمر على هذا المنوال ودمي يفور وشعوري الجريح يتأجج كأنه نار وحاولت أن أرد الصاع صاعين، وإذا بوالدي وهو كل شيء عندي بالنسبة للحياة الدنيا يقف أمامي ويبكي ويقول: يا عبد الحميد، يا ولدي، ربيتك صغيراً، وعلمتك يافعاً، وفتحت أمامك أبواب الحياة الهنيئة حتى غدوت عالماً تشد إليك الرحال، فلا تفضحني اليوم يا عبد الحميد في شيبتي، لا تشمت بي الأعداء، لا تتركني للمذلة والهوان، هذا حبيبنا مسيو ميرانت لا يريد لنا إلا الخير، وقد مهد لي سبل الوصول إلى المركز الذي أنا فيه، وإن الإعراض عنه هو إعراض عني أنا، والإساءة إليه هي إساءة لي، ورفض طلبه هو رفض طلبي، وقد أمر الله بطاعة الوالدين، فأنا آمرك يا عبد الحميد بالتخلي عن هذه الرئاسة وعن هذه الجمعية. قال: ثم انحنى أمامي وأنا أذوب وأكبّ على رجلي يقبلها ويبكي ويقول: لا تفضحني يا عبد الحميد.

‏قال: فانتصبت واقفا، وأنا أرتعد تأثراً لا فرقاً وتوجهت ‏لوالدي وقلت: حاشا أ، أعصي لك أمراً أو أن أخالف لك رأياً وأنا ابنك المطيع، إلا أن هذا الذي تدعوني إليه ليس في استطاعتي إطلاقاً، لأنني إذ أطعتك فيه خالفت أمر الله، وأمر الله فوق أمر الوالد بنص القرآن، ولقد وقف محمد عليه الصلاة والسلام مثل هذا الموقف أمام أكابر قومه ووجوه عشيرته فراودوه على أن يترك الدعوة لله وله ما يشاء مقابل ذلك من مال ومتاع فأجابهم الجواب القاطع الصارم: والله لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته إلى أن يظهره الله أو اقضي دونه”. هذه هي كلمتي الأخيرة يا والدي ويا مسيو ميرانت وليفعل الله بعد ذلك ما يشاء. وخرجت ‏لا ألوي على شيء.

‏قال له علامتنا العظم البشير الإبراهيمي على الفور: طوبى لك يا عبد الحميد وحسن مآب، وقمنا إليه فهنّأناه وذرفنا الدموع جميعاً، فلقد اعتبرنا انتصارنا في تلك المعركة مقدمة لانتصارات باهرة في معارك أخرى آتية لا محالة.

‏ونشأت جمعية العلماء المسلمين واشتد ساعدها، وكان من أمرها ما كان مما تعرفونه جميعاً، فحياة جمعية العلماء المسلمين قبل معركة التحرير وخلال معركة التحرير جزء كبير من حياة الجزائر، وهي تستعد لخوض معركة من أكبر معارك التاريخ فني العصر الحديث.

‏ولا أنس سادتي وسيداتي يوم نشر زعيم كبير من زعماء تلك الساعة، مقالاً يؤيد فيه سياسته تحت عنوان: “فرنسا هي ‏أنا” يقول فيه أنه راجع الكتب وجال خلال المقبرة وسأل الخاص والعام عن وطنية جزائرية وعن قومية جزائرية فلم ير لذلك أي أثر. إذن، ففرنسا هي الكل والكل هو فرنسا إلى أخر تلك الخرافة.

‏كتبت ساعتئذ للشهاب مقالاً أقول فيه: “كلا إن الجزائر ليست فرنسا، ولم تكن الجزائر فرنسا، ولن تكون الجزائر فرنسا، إذ كل ما عند فرنسا يخالف كل ما عند الجزائر، ونحن أمة جاهدت وتجاهد ولنا تاريخ حافل مجيد، ومستقبلنا هو في إعادة أمجادنا وإحياء تاريخنا وبعث لغتنا.

‏وصبيحة الغد وجدت شبحاً أبيض اللون على باب مكتبي تبينته فإذا هو عبد الحميد بن باديس. قال: تلقيت مقالك وأعجبي وأطربني، إنما بادرت بالمجيء إليك لنتباحث في موقف الحكومة تجاه هذه الأقوال الصريحة التي تنشر هكذا لأول مرة، وهي تخالف القانون الفرنسي على خط مستقيم. قلت: قد تدبرت الأمر، وأننا في قضية القومية الجزائرية على طول الخط، وفي الموقف احتمالان: فإما أن يتحرك الاستعمار ضدنا بسجن أو ‏نفي أو تعطيل للشهاب، وبهذا تكون قضية الشخصية الإسلامية الجزائرية قد كسبت كسباً كبيراً ووُضعت في مجالها وتكلم عنها الناس شرقاً وغرباً، وإذا عُطّل الشهاب من أجلها قدمنا مكانه مجلة أخرى تحمل حولها هالة الشهاب. ‏وإذا سكتت الحكومة متربصة بنا الدوائر، استمر بنا السير في هذا الطريق الذي فتحناه. قال: هذا ما كنت أريد أن أسمعه. ‏ورجع من توه إلى قسنطينة ونشر المقال وكان من أمره ما كان، ولم تتحرك الحكومة بل حركت أذنابها.

‏وهل أتاكم حديث المؤتمر الإسلامي الجزائري سادتي وسيداتي، إنه حقاً لحديث عجب، لقد مل بعد ذلك رجال السياسة الجزائرية ما تسلكه السياسة الفرنسية نحوهم من مماطلة وتسويف وما يتخذه المستعمرون الأجلاف من مواقف مزرية مخجلة، ليست من السياسة ولا من الإنسانية في شيء، فحزم جماعة النواب المسلمين من كل أطراف البلاد أمرهم وجمعوا في عاصمة الجزائر مؤتمراً عاماً، ما شذ عنه إلاّ حزب الشعب الأصيل، لأن سياسته الاستقلالية لا تتفق أصلاً مع سياسة أولئك النواب، فهو يريد الاستقلال وقلع جذور الاستعمار وهم يريدون إصلاحات تمكن الشعب من بعض حقوقه كخطوة تتلوها ‏بعد التنفيذ خطوات.

‏ولقد بلغ من أهمية جمعية العلماء تلك الساعة وتغلغلها في كل الأوساط الجزائرية ما جعل الذين فكروا في عقد ذلك المؤتمر يبادرون بدعوتها، وضمها إلى اللجنة الأساسية وكان رجلنا العظيم ابن باديس ممن أيد المؤتمر ودعا إلى عقده وكان يعتبر إنجازه كسباً عظيماً للجزائر مهما كانت مقرراته ومهما كانت نتائجه، وكانت جمعية العلماء تطالب يومئذ بشدة وبقوة بفصل الدين الإسلامي عن الحكومة الفرنسية حتى يستقل المسلمون، كأتباع الديانات الأخرى، بأمور دينهم وأوقافهم ومساجدهم وقضائهم الشرعي. وبأن الإحراز على الحقوق ‏السياسية لا يستوجب الحرمان من الحالة الشخصية الإسلامية ولقد ضغطت الجمعية ضغطاً عنيفاً إلى أن قرر النواب وصادق المؤتمر الذي حضره إلى جانبهم العلماء والمستلون والشيوعيون، اعتبار مطالب جمعية العلماء من جملة بل من صميم ما يطالب به المؤتمر، وأسندوا رئاسة المؤتمر بإجماع ‏لرجلنا العظيم ابن باديس.

‏ولم نكن نرى إطلاقاً أن برنامج فيوليت يحقق رغبات الأمة أو يغير وضعيتها، ولم نكن ندافع عنه في الشهاب وفي صحف الجمعية أو ندعو إليه بل كنا نحمل عليه ونبين عيوبه ومجموعات الشهاب وصحف الجمعية لا تزال موجودة شاهدة ‏والحمد لله.

‏إن الأمر الذي يسجله التاريخ ويشهد به العام والخاص، هو أن ابن باديس العظيم كان في رئاسته للمؤتمر الإسلامي كما كان في ورئاسته لجمعية العلماء الرجل الحازم العازم القوي ‏الشكيمة البعيد النظر المفكر العميق الذي إن لم يحبه الجميع ضمن دائرة المؤتمر فقد كان يحترمه الجميع، بل ويخضع لرأيه ‏الجميع.

‏سافر وفد المؤتمر لباريس ليجادل الحكومة الفرنسية حول وضعية الشعب البائسة، وحول الوسائل التي يمكن بها نزع الأغلال عنه، فما وجد الوفد هذه المرة كما لم يجد أي وفد في المرات السابقة أي استعداد لأي مفاهمة، فحكومة باريس كانت ولم تزل خادمة لركاب الاستعمار والمستعمرين إلى أن ‏هوت معهم إلى الحضيض تحت ضربات الثورة الهائلة.

‏واشتد النقاش مرة بين رجال الوفد وبين رئيس الحكومة إلى درجة أنه احتد وجابه الوفد بقوله: لا تنسوا أيها السادة أن فرنسا معها المدافع، فوجم القوم إلا ابن باديس الذي ما كاد يسمع ذلك القول بواسطة الترجمان حتى جابه رئيس الحكومة بمثل حدته: وأنت لا تنس أيها السيد الرئيس أن الجزائر معها الله. وانتقل الوجوم من الوفد إلى الرئيس.

‏وكأن القدر قد تكلم ساعتئذ بلسان فصيح، وكأن المصير قد تقرر تلك الساعة. فرنسا معها المدافع والجزائر معها الله. واستمر اغترار فرنسا بالمدافع واستمر اعتزاز الجزائر بعون الله وتغيرت الأحوال وتقلبت السياسة إلى أن نفخ الجزائريون الأبطال في صور الثورة العارمة يوم فاتح نوفمبر المجيد واقتحموا الميادين باسم الله وقابلتهم فرنسا الاستعمارية بالمدافع، فما أغنى عنها ذلك شيئاً ونصر الله بفضل الشهداء والتضحية الذين قاموا باسمه.

‏كان أخر موقف علني وقفه ابن باديس العظيم والأزمة المالية خانقة تهدد العالم بشرّ وبيل، هو رده ضمن مجلس جمعية العلماء على من قال : يجب علينا أن نوجه برقية تأييد لحكومة فرنسا. إننا بذلك نأمن غائلة أعمالها ضدنا إذا ما اشتعلت نار الحرب ونضمن كذلك مراعاتها لحقوقنا إذا ما خرجت من الحرب منتصرة. ‏أجابه ابن باديس على الفور- وأيده كل الأعضاء – قائلاً: كلا: لن نرسل لحكومة فرنسا أي تأييد، إنها حطمتا وأذلتا ساعة رخائها فلا يجب أن نمد لها يداً أي يد ساعة عسرها. طالبنها مراراً وتكراراً فكانت تصم آذانها وتتجنى، ونحن اليوم نصم آذانا عنها ونتجنى وانسحب صاحب الاقتراح من الجمعية ولم ‏تخسر الجمعية شيئاً.

‏جاءت الحرب العالمية هوجاء عاتية وجثم المرض الخبيث على صدر رجلنا العظيم، فألزمه الفراش ساعة كان الناس ينتظرون منه كثيرا، وساعة كان مع جماعة من أصحابه الأقربين يستعد في إيمان وتصميم لولوج معركة العزة والكرامة. ما عتم الموت الرهيب أن انتزع من ذلك الجسم الفاني تلك الروح النورانية الطاهرة فرجعت إلى ربها راضية مرضية وما عاشت ‏فرنسا بعدها إلا شهرين ‏فانهارت انهيار العار والشنار وما أغنت عها مدافعها ولا طائراتها ولا أسطولها، وإن ربك ليمهل الظالم حتى إذا أخذه، لم يفلته.

‏انتهى عبد الحميد العظيم جسماً إنما لم ينته عبد الحميد روحاً، إننا لا نزال ولن نزال نرى رأي العين إيمانه ونشعر بقوته وندرك صلابته في الحق وشدته على الباطل.

‏إنا نرى ازدهار الإسلام كما كان يريد، إننا نرى استقلال العرب كل العرب كما كان يرجو، إننا نرى ونتمتع باستقلال الجزائر وبقية جهات المغرب العربي الذي كان يسعى إليه ويجاهد في سبيله، إنا نرى اللغة العربية لغة رسمية للبلاد، ونرى الثانوياتالدينية تنتشر وتسود رغم كيد الكائدين، إنا نرى بلادنا حرة طليقة تمتهن الصناعة الكبرى في البر وتعلو طائراتها العديدة في الجو، وتمتلك فوق عباب البحر أعظم أسطول في بلاد أفريقيا وبلاد العرب.

‏يا عبد الحميد، أمتك ناهضة عاملة ومبادئك سائدة ووحدتها عميقة وقوتها عارمة وكلمتها سموعة.

‏يا عبد الحميد، الرجل العظيم، عشت مجاهداً ومت شريفاً وتركت مبادئ ورجالاً، إنك موجود بيننا أبدأ يا عبد الحميد، إنك لمن الخالدين.

‏والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أحمد توفيق المدني

Loading

Bookmark the permalink.

اترك تعليقاً